وإلى هنا انتهى كلام الجن ثم عاد إلى ذكر الموحى به إلى رسوله فقال :
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي وأوحى إليه أنه لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام ، لوسّعنا عليهم أرزاقهم ، ولبسطنا لهم فى الدنيا.
وإنما خص الماء الغدق بالذكر ، لأنه أصل المعاش ، وكثرته أصل السعة ومن ثم قيل حيثما كان الماء كان المال ، وحيثما كان المال كانت الفتنة ، ولندرة وجوده بين العرب ، ومن ثمّ امتنّ الله على نبيّه بقوله : «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» على تفسير الكوثر بالنهر الجاري ، ونحو الآية قوله : «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ».
وسرّ هذا ما عرفت غير مرة من أن الخصب والسعة لا يوجدان إلا حيث نوجد الطمأنينة والعدل ويزول الظلم ، وتكون الناس سواسية فى نيل الحقوق ، فلا ظلم ولا إرهاق ، ولا محاباة ولا رشا فى الأحكام.
ثم ذكر سبب البسط حينئذ فقال :
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر لنرى هل يشكروننا على هذه النعم ، فإن وفّوها حقها كان لهم منى الجزاء الأوفى ، وإن نكصوا على أعقابهم استدرجناهم وأمهلناهم ، ثم أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، كما قال : «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ».
(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي ومن يعرض عن القرآن وعظاته ، فلا يتبع أوامره ولا ينتهى عن نواهيه ـ يدخله فى العذاب الشاق الذي يعلوه ويغلبه ، ولا يطيق له حملا.