قال أبو إسحاق : وهذا القولُ عندي ليس بجائز ؛ لأنّ الله قد أنبأ النبيَّ عليهالسلام في قوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] ، أنه لا يشاء أن يَذهَب بما أوحَى به إلى النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال : وفي قوله تعالى : (فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦ ، ٧] قولان يُبْطِلان هذا القولَ الذي حَكَيْناه عن بعض أهل اللغة :
أحدُهما : (فَلا تَنْسى) أي : فلستَ تَتْرك إلا ما شاء الله أن تَتْرُك.
قال : ويجوز أن يكون : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ممّا يلحق بالبَشَريّة ، ثم تذَكَّرُ بعدُ ليسَ أنه على طريق السَّلْب للنبيّ عليهالسلام شيئا أوتيَه من الحكمة.
قال : وقيل في (أَوْ نُنْسِها) قول آخر ؛ وهو خطأ أيضا.
قالوا : أو نَتركها ، وهذا إنما يقال فيه : نَسِيت إذا تركت ، لا يقال : أُنْسيتَ تركت ، وإنما مَعنى : (أَوْ نُنْسِها) [البقرة : ١٠٦] أو نتركها ، أي : نأمركم بتَرْكِها.
قلتُ : وممّا يقوِّي قولَه ، ما أخبرَني المنذريُّ عن ثعلب عن ابن الأعرابي أنه أنشده :
إنّ عليَّ عُقْبَةً أَقْضِيها |
لستُ بناسِيها ولا مُنْسِيها |
قال : بناسِيها : بتارِكها ، ولا مُنسِيها : ولا مؤخِّرها ، فوافَق قول ابن الأعرابيّ قَولَه في النَّاسي أنّه التارك لا المنسيّ ؛ واختلف قولهما في المُنْسِي ، وكان ابن الأعرابي ذهبَ في قوله : «ولا مُنْسِيها» إلى ترك الهمز ، مِن أَنسَأْت الدَّيْنَ ، أي : أخَّرْتَه على لغة مَن يخفِّف الهمزة.
وأمّا قولُ الله جلّ وعزّ حكايةً عن مريمَ : (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] ، فإنّه قرىء (نَسْياً) و (نِسْيا) ، فمن قرأ بالكسر فمعناه حَيْضةً مُلْقاةً ، ومن قرأ (نَسْياً) فمعناه شيئا مَنْسِيا لا أُعرَف ، وقال الزّجّاج : النِّسْيُ في كلامِ العَرَب : الشيءُ المطروح لا يُؤْبَه له ، وقالَ الشَّنْفَري :
كأنّ لها في الأرض نِسْيا تَقُصُّه |
على أُمِّها وإنّ تُحاطِبْك تَبْلَتِ |
وقال الفرّاء : النِّسْيُ والنَّسْيُ لغتان فيما تُلْقِيه المرأةُ من خِرَق اعتلالِها. قال : ولو أَردتَ بالنِّسْيِ مصدَر النِّسْيان كان صوابا ، والعَرَب تقول : نَسِيتُه نِسْيانا ونِسْيا.
وأخبَرَني المُنذِريُّ عن ابن فَهْم ، عن محمّد بن سلّام ، عن يونسَ أنّه قال : العَرَبُ إذا ارتَحَلوا من الدّار قالوا : انْظُروا أَنساءَكم : أي : الشيءَ اليَسيرَ نحو العَصَا والقَدَح والشِّظاظ.
وقال الأخفش : النِّسْيُ : ما أغفِل من شيء حقيرٍ ونُسِيَ.
وأخبَرَني الإياديُّ عن شمر عن ابن الأعرابيّ أنّه أَنشَدَه :
سَقَوْني النَّسْيَ ثم تكنَّفُونِي