ولا يجوز لأحد أن يقول : إن قبول التوبة النصوح فى مشيئة الله تعالى ؛ فإن ذلك جهل محض ويخاف على قائله الكفر ؛ لأنه وعد قبول التوبة قطعا وهذا بخلاف الإيعاد فإن العفو عنه وترك العقوبة كرم منه لا أنه خلف. هذا مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة وتمامه عرف فى الأصول ، وإنما ذكرت هذه المسألة هنا كيلا يتشكك التائب فى قبول توبته إذا كانت توبة نصوحا ؛ فإنه بتلك التوبة والاعتقاد يصير مذنبا أعظم من الذنب الأول.
ثم اعلم أن تمام التوبة وقبولها موقوف على إرضاء الخصوم برد المظالم إلى أصحابها ، وقضاء الديون ، ورد الودائع والأمانات بقدر الوسع والطاقة ؛ لقول النبى صلىاللهعليهوسلم : «لا يقبل الله توبة عبد حتى يرضى الخصماء ؛ فإذا رضى خصماؤه رضى الله عنه ، ويقبل توبتة وصومه وصلاته ، ودرهم واحد يرد إلى الخصماء خير له من عبادة ألف سنة».
وفى رواية : «ولرد دانق من حرام خير له من سبعين حجة» (١).
وينبغى أن يجتهد فى رد المظالم وقضاء الديوان ورد الودائع إلى أربابها ؛ فإن السفر بعيد والعمر قصير والناقد بصير والخطر شديد ، وأن يخيّل هذا السفر بسفر الآخرة ؛ لأن علاماته أنموذج علامات سفر الآخرة بعينه فى الحقيقة لمن تدبره.
واعلم أن كل معصية أو مظلمة أو حق لغير يجب عليك توبته ورده وأداؤه ؛ فهو كغريم متعلق بذيلك ويمنعك من الوصول إلى مقصدك ومطلوبك ، وكأنه يقول لك بلسان الحال فى المقال : كيف يحل لك قصد حرم الملك ذى الجلال وأنت مصر على معصيته ومرتكب على مخالفته وتطمع فى رضاه عليك وتتعرض لإحسانه إليك أفلا تخش من الرد والطرد؟!
__________________
(١) الدانق : أصغر قطعة نقد فى العصور الأولى ، وكان يساوى سدس درهم ، والحديث غريب جدا ، قال عنه القارى فى رسالته (ص : ٥٥) : وقال العسقلانى : «ما عرفت أصله» ، وهو مذكور فى كشف الخفاء ومزيل الالتباس ١ / ٥١٥ ـ ٥١٦ ، وهداية السالك ١ / ١٣٧. وفيه : إسحاق بن وهب الطهرمسى ؛ قال عنه الدارقطنى : كذاب متروك يحدث بالأباطيل عن عبد الله بن وهب وغيره. انظر : الضعفاء والمتروكون (١٠١) ، وتنزيه الشريعة ١ / ٣٧ ، وقال عنه ابن حبان : يضع الحديث ، لا يحل ذكره إلا على سبيل القدح فيه ، منكر الرواية (المجروحين ١ / ٢٩٤).