البساط رد إلى الباب ، ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب.
وقال علىّ رضى الله عنه : من خدم الملوك بغير علم أسلمه الجهل إلى القتل.
وقال يحيى بن معاذ : إذا ترك العارف أدبه عند معروفه فقد هلك مع الهالكين.
وقال الشافعى رحمه الله : سياسة الناس أشد من سياسة الدواب.
وقال عمر بن شيبة : كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلا راكبا على بغلة وبين يديه غلمان يطوفون ويعنّفون الناس ، قال : ثم بعد حين دخلت بغداد فكنت على الجسر فإذا رجل حاف حاسر طويل الشعر ، قال : فجعلت أنظر إليه وأتأمل فيه ، فقال : ما لك تنظر إلىّ؟ فقلت : شبهتك برجل رأيته بمكة ووصفت له الصفة ، فقال : أنا ذلك الرجل ، فقلت : ما فعل الله [بك]؟ فقال : إنى ترفعت فى موضع يتواضع فيه الناس فوضعنى الله تعالى فى موضع يترفع الناس فيه.
فلخوف هذه الخصال المذمومة وترك الأدب احترزوا عن المقام والمجاورة فيها فإن ذلك كله سبب يخاف فيه لحوق المقت والسخط من الله تعالى وأقله نقصان نور المعرفة ، والمقت هو موت القلب ، ومن مات قلبه زال عنه مولاه ، وحياة القلب حقيقة المعرفة بالمحيى كما أخبر الله فى كتابه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) أى : بالجهل وهوى النفس فأحييناه أى : بالعلم ومحبة الحق ، وجعلنا له نورا من هدايتنا يمشى به فى الناس ولقوله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً)(١). أى : حياة حقيقية بتحقق معرفته لا موت بعدها ، بالتجرد عن المواد البدنية والانخراط فى سلك الأنوار السرمدية والتلذذ بكمالات الصفات من مشاهدات التجليات الأفعالية والصفاتية.
ثم أهل المعرفة والعرفان اختلفوا فى حد حقيقة المعرفة وهى حياة القلب بالمحيى على ما ذكرنا.
قال ذو النون المصرى : حقيقة المعرفة هى اطلاع الحق على الأسرار بمواصلة لطائف الأنوار كما أن الشمس إذا طلعت أشرقت الأرض بنورها ، وكذلك الحق إذا طلع على الأسرار أشرقت الأفئدة بنوره.
وقال بعضهم : حقيقة المعرفة هى الغنى الكلى تحت اطلاع الحق سبحانه كما
__________________
(١) سورة النحل : آية ٩٧.