ولا شىء أعظم وأعزّ فى حق الله تعالى من المعرفة على ما بينا ، وغرضنا من هذا كله أن المحتاطين فى دين الله تعالى كرهوا المجاورة فى بيت الله تعالى خوفا من فوات هذا النور بترك الحرمة والتعظيم ومعرفة قدره ، ولهذا قال بعضهم : إذا كنت فى بلدك وقلبك مشتاق إلى الكعبة ومتعلق بها خير من أن تكون أنت فيها وقلبك فى بلد آخر.
ولهذا قال بعض السلف : كم من غائب بخراسان وهو أقرب إلى البيت من رجل يطوف به.
ثم بعض العلماء من المحتاطين فى الدين يكرهون المنع من الإقامة والمجاورة أيضا بها ؛ لأنه منع من الطاعة والعبادة ، ويحتمل أن المجاورة قد تفى بحق الكعبة وما يتعلق به من التعظيم والحرمة ، والأدلة من الجانبين قد تقدمت فليتأمل ؛ فالحاصل من اختلافهم وأقوالهم أن من لم يقدر على الوفاء بحقه كما يجب وينبغى فترك المقام والمجاورة أفضل له لما فيه من وجود التقصير والتبرم والإخلال بحرمته وتعظيمه وتوقيره كما هو المشروع. ومن قدر على المجاورة والإقامة بها على وجه يتمكن من الوفاء بحقه وحرمته وتعظيمه على وجه تبقى تلك الحرمة فى عينه كما دخل فيها أولا ، فهيهات هيهات فذلك الفوز العظيم والفضل الجسيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء الذى لا يوازيه شىء على ما نطق به سيد البشر صلوات الله عليه وسلامه : «إن النظر إلى الكعبة عبادة ، ومن نظر إلى البيت نظرة إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (١).
وفى رواية : «من نظر إلى البيت من غير طواف ولا صلاة تطوعا فذلك عند الله أفضل من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها» (٢).
وقال صلىاللهعليهوسلم : «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، فإن صلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة إذا صلاها وحده ، وإن صلاها فى جماعة فإنها بألفى صلاة وخمسمائة ألف
__________________
(١) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ٢ / ٩ ، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور ١ / ٢٥٠ إلى الجندى ، وابن الجوزى فى مثير الغرام (ص : ٢٧٦) ، وابن جماعة فى منسكه ١ / ٧٥.
(٢) ذكره ابن جماعة فى منسكه ١ / ٧٥.