فجمع بين الحذف ، والإثبات. ألا ترى أنه ، قال : أمرتك الخير ، ثم قال : أمرت به. ولم يقل : أمرته. فأما قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(١) وقوله : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ)(٢) فلك في (ما) وجهان : أحدهما : أن تجعل (ما) مصدرية ، فيكون حرفا ، بمنزلة (أن) موصولة بالفعل ، في تقدير المصدر ، فلا يقتضي عائدا إليها من الصلة [٦١ / ب] وكأنه قال : اصدع بالمأمور ، وافعل المأمور.
كما أن الخلق بمعنى المخلوق. والوجه الثاني : أن تجعل (ما) بمعنى (الذي) ، فيقتضي حينئذ عائدا من الصلة إليه ، فيكون التقدير : فاصدع بما تؤمر به ، وافعل ما تؤمر به. ومعنى اصدع بما تؤمر به : اصدع ما تؤمر بالصدع به. لا بد من هذا التقدير ، ليصح المعنى. فحذف الباء ، فصار التقدير : فاصدع بما تؤمر الصدع به ، ثم حذف الباء الثاني ، فلم يمكن الجمع بين لام التعريف ، والهاء ، فحذف لام التعريف ، وأضيف المصدر إلى المفعول ، فصار : فاصدع بما تؤمر صدعه. فحذف المضاف ، فصار التقدير : فاصدع بما تؤمره ، ثم حذف الهاء ، فصار : فاصدع بما تؤمر. فهذا من لطائف العربية ، ذكره أبو الفتح.
ثم قال : الثاني منهما : أفعال الشك ، واليقين : مما كان داخلا على المبتدأ ، وخبره. فكما لا بد للمبتدأ من خبره ، فكذلك ، لا بد للمفعول الأول من المفعول الثاني. وتلك الأفعال : ظننت ، وحسبت ، وخلت ، وزعمت ، ووجدت ، وعلمت ، ورأيت بمعنى : علمت.
تقول : ظننت زيدا قائما ، وحسبت محمدا جالسا ، وخلت أباك كريما ، وزعمت أخاك عاقلا ، ووجدت الله غالبا ، وعلمت أبا الحسن عفيفا ، ورأيت محمدا ذا مال.
[قلت] : يختص بهذه الأفعال أربعة أشياء ، لا يشاركهن فيها غيرها ، منها : أنها تدخل على المبتدأ ، والخبر ، فيصيران مفعوليها. ولا يجوز الاقتصار على أحدهما ، لأن الأول لا يستغني عن الثاني ، والثاني لا يستغني عن الأول. فإن لم تذكرهما ، فهو جائز. وقد جاء ذلك في التنزيل ، قال الله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ)(٣) والتقدير : زعمتموهم إياهم. فلم يذكر المفعولين ، لأنه معلوم. فأما أن تذكر أحدهما ، فلا يجوز إلا في القليل النادر. [قال الشاعر] :
١٥٩ ـ بأيّ كتاب ، أو بأية سنّة |
|
ترى [حبّهم (٤)]عارا عليك ، وتحسب (٥) |
فلم يعدّه إلى المفعولين في اللفظ. فأما قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ)(٦) فمن قرأ بالياء (٧) ، كان (الذين) هو الفاعل إلى
__________________
(١) ١٥ : سورة الحجر ٩٤.
(٢) ٣٧ : سورة الصافات ١٠٢.
(٣) ١٨ : سورة الكهف ٥٢.
(٤) في الأصل : حبها.
(٥) البيت من الطويل ، للكميت ، في : الهاشميات ٣٨ ، والجمل ١ : ٣١٠ ، والخزانة ٩ : ١٣٧ ، وبلا نسبة في : ابن عقيل ١ : ٤٤٣ ، وأوضح المسالك ٢٢٠ ، وهمع الهوامع ٢ : ٢٢٥.
(٦) ٣ : سورة آل عمران ١٨٨.
(٧) وهم : ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، وابن محيصن ، واليزيدي ، ويعقوب ، وأبو جعفر ، والحسن.
التيسير ٩٢ ، وتفسير التبيان ٣ : ٧٥ ، وتفسير القرطبي ٤ : ٣٠٧ ، والبحر المحيط ٣ : ١٣٧ ، والنشر ٢ : ٢٤٦ ، وإتحاف الفضلاء ١٨٣ ، وغيث النفع ١٨٧.