واعلم أن المستثنى ، في الحقيقة ، منصوب بالفعل قبله ، أو بمعنى الفعل ، إذا كان قبله غير الفعل. فقولك : قام القوم إلا زيدا ، (زيدا) منصوب ب (قام). وقولك : القوم إخوتك إلا زيدا ، (زيدا) منصوب بمدلول الجملة. لأن مدلوله : تواخى القوم إلا زيدا. ويجوز أن يكون مدلول الكلام عاملا بتوسط الحرف ، لأنهم أجمعوا ، على أنه لا يجوز : هذا ضارب زيدا أمس ، بإعمال اسم الفاعل ، إذا كان ماضيا. ثم أجازوا إعماله بتوسط الحرف. فكذا هاهنا ، كقولهم : هذا مارّ بزيد أمس ، فيعدّى بالباء. وإذا كان المستثنى مفعولا ، في الحقيقة ، لا يعمل فيه إلا فعل واحد ، وعامل واحد. لأنه لا يجوز أن يعمل في معمول واحد ، لأن كل واحد منها يقتضي معموله ، فلا يكون معمول واحد ، موزّعا على عوامل شتى. وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا)(١) : لا يكون منصوبا إلا بناصب واحد ، ولا يتسلط عليه نواصب ، لأن ذلك يؤدي إلى الاستحالة ، فيكون العامل فيه : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٢) ، حسب : لأنه أقرب إليه. وقد عرف من قواعد العربية ، أن العوامل ، إذا كانت شتى ، وتعقّبها معمول واحد ، حمل على الأقرب إليه.
وذلك ، نحو قولهم : ضربني وضربت زيدا. ينصب زيد بضربت ، ولا يرفع بضربني ، لأنه أقرب إليه. وهو مذهب صاحب الكتاب (٣). ومذهب الكسائي : أنه يرفع حملا على الأول. فقال له سيبويه : لو حمل على الأول ، لقيل : ضربني وضربته زيد. فاحتج الكسائي (٤) لإعمال الأول بقول [امرئ القيس] :
١٩٨ ـ فلو أنما أسعى لأدنى معيشة |
|
كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال (٥) |
فرفع (قليل) ب (كفاني) ولو نصبه ب (أطلب) لم ينكسر البيت. فقال له سيبويه : لو نصب ب (لم اطلب) فسد المعنى ، لأنه كان يطلب الملك ، دون (قليل من المال) فقال : لو لم أطلب الملك ، وكنت أسعى لأدنى معيشة ، كفاني [٨٠ / ب] قليل من المال. ألا ترى بعده :
١٩٩ ـ ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل |
|
وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي (٦) |
فأما [قول الشاعر] :
٢٠٠ ـ قضى كلّ ذي دين ، فوفّى غريمه |
|
وعزّة ممطول ، معنّى غريمها (٧) |
فإنّ الكسائي ، ربما ، يزعم : أن قوله : غريمها : مرفوع ب (ممطول) دون معنّى ، والتقدير :
__________________
(١) ٢٤ : سورة النور ٥.
(٢) ٢٤ : سورة النور ٤.
(٣) الكتاب ١ : ٧٣.
(٤) بل والكوفيون جميعا. ينظر : الإنصاف (مسألة ١٣) ١ : ٨٣ ، ٨٤.
(٥) البيت من الطويل ، في : ديوانه ٣٩ ، والكتاب ١ : ٧٩ ، والإنصاف ١ : ٨٤ ، وابن يعيش ١ : ٧٩.
وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٧٦ ، والخصائص ٢ : ٣٨٧.
(٦) البيت من الطويل ، في : ديوانه ١٦٧.
وبلا نسبة في : همع الهوامع ٢ : ١٩٠.
(٧) البيت من الطويل ، لكثير عزة ، في : ديوانه ١٤٣ ، وابن يعيش ١ : ٨ ، واللسان (غرم) ١٢ : ٤٣٦.
وبلا نسبة في : المقتصد ١ : ٣٤٠ ، والإنصاف ١ : ٩٠.