قوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً)(١). فالاستثناء من هذا ، لأنه فعل واحد. ولا يجيء عليه ما ذكرتموه من أنه يكون معمولا لعوامل شتى. وتقديرنا الجملة ، تقدير المفرد ، هو الذي ذكرتموه ، في أول هذا الكتاب ، من أنّ الأصل في الكلام : المفرد. والجمل ثان له. ولهذا المعنى ، قلتم : الفاعل : لا يكون جملة ، لأن الفعل ، والفاعل نظير المبتدأ ، والخبر. والمبتدأ ، والخبر جزءان. والفعل ، والفاعل ، ينبغي أن يكونا جزءين. وإذا كان الفاعل جملة ، يكون ثلاثة أجزاء. وزعمتم : أن الجمل في خبر المبتدأ ، في تقدير المفرد ، فأبدا ، تقدرون الجمل في تقدير المفرد ، ولا تجعلون الجمل أصلا ، في الكلام. فما بالكم جعلتم : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، جملة ، واستثنيتم منه (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)؟) وهلا جعلتموه في تقدير المفرد ، كما ذكرنا؟ وقولكم في قوله (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ) إنه مستأنف ، لارتفاع (يحق). ف (يحقّ) يجوز أن يكون : مجزوما ، ويكون كقوله (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)(٢) فضمّ ، وهو [٨١ / ب] مجزوم ، جواب (إن). ويكون معنى الآية : أم يقولون افترى على الله كذبا ، فإن يشأ الله يختم على قلبك ، وينزل على لسان نبي آخر ، أفتراك لو افتريت؟! ويمحو الله الباطل على لسانه ويحقّ الحق بما يوحيه إليه. وهو داخل في الشرط ، والجزاء ، وليس بخارج منه. فاحتجاجكم به باطل!.
[الجواب] : أنّ الغرض من الآية ، هو : النهي ، عن قبول الشهادة. والأمر بتفسيقهم. وليس الغرض : أن لا تقبل شهادتهم ، فاسقين ، وإنما الغرض : أن يفسّقوا ما داموا مصرّين ، على القذف.
فقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) :) جملة خبرية ، يراد بها : الأمر ، وأن يعتقد فيهم الفسق. فإنما يقدّر الجملة تقدير المفرد ، إذا أمكن وضع المفرد موضعها. وهاهنا ، لو وضع المفرد موضعها ، على ما ذكر بطل الغرض ، وانقلب المعنى. فإذن قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) محمول على الجملة التي هي أقرب إليه ، وهو العامل فيه ، لا غير.
ومثله في قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)(٣). فالجر متعلق ب (يفتيكم). ومثله : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ)(٤). فالمعنى : إنّي أشهد الله أني بريء ، واشهدوا أني بريء. فأعمل الثاني ، لأنه أقرب إليه. [قال الشاعر] :
٢٠١ ـ ولقد أرى ، تغنى بها سيفانة |
|
تصبي الحليم ، ومثله أصباه (٥) |
فأعمل (تغنى) دون (أرى). [وقال الآخر] :
__________________
(١) ٢٤ : سورة النور ٤.
(٢) ٣ : سورة آل عمران ١٢٠.
(٣) ٤ : سورة النساء ١٧٦.
(٤) ١١ : سورة هود ٥٤.
(٥) البيت من الكامل ، لرجل من باهلة. في : الكتاب ١ : ٧٧ ، والتحصيل ٩٥ ، والإنصاف ١ : ٨٩.
وبلا نسبة في المقتضب ٤ : ٧٥.
السيفانة : المرأة الممشوقة اللحم ، المهفهفة ، شبهت بالسيف لإرهافه ، ولطافته.