المستثنى على المستثنى منه. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ)(١). ولا خلاف في جواز : ما في الدار إلا زيدا أحد. بتقديم المستثنى على المستثنى منه. وإنما الخلاف في أنه هل يجوز : إلا زيدا قام القوم. فالبصريون لا يجيزونه ، وهو الصواب. والكوفي يجيز ، وليس بشيء (٢). ألا ترى أنه لا يجوز في : عشرين درهما. درهما عشرين. ولا في : طاب زيد نفسا ، تقديمه ، وهو أقوى من هذا ، وتصرفه أكثر. و (إلا) ليس بمتصرف ، فلا يتقدم على الفعل.
[قال أبو الفتح] : فإن فرّغت العامل قبل (إلا) عمل فيما بعدها لا غير. تقول : ما قام إلا زيد. و : ما رأيت إلا زيدا ، فترفعه بفعله ، وتنصبه بوقوع الفعل عليه.
[قلت] : واعلم أنه لا يجوز أن تقول : ما ضربت إلا زيدا بسوط ، فتعلّق ما بعد (إلا) بما قبله ، إذا كان ما قبل (إلا) كلاما تاما. وكذلك ، لا يجوز : ما الخبز زيد إلا آكل. لا تنصب الخبز بآكل. وإنما لم يجز ذلك ، لأن (إلا) بمنزلة حروف النفي. فكما لا يعمل ما بعد النفي فيما قبله ، نحو : زيدا ما ضربت ، فكذا لا يعمل ما بعد (إلا) فيما قبله ، ولا ما قبله فيما بعده إذا كان تاما.
والدليل على أن ما يستثنى به ، بمنزلة النفي ، ما زعمه الكسائي ، والفراء (٣) ، في قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)(٤). قالا : التقدير : أنعمت عليهم ، لا مغضوبا عليهم (٥) ، ولا الضالين. فإنما جاء (لا) في قوله : (ولا [٨٢ / ب] الضالين) ، لأن في (غير) معنى النفي. وإذا كان كذلك ، كان حكمه حكم النفي. فأما قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ)(٦) فليس التقدير : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر ، وإن كان المعنى عليه ، لأنا قد ذكرنا أن ما بعد (إلا) لا يتعلق بما قبله إذا كان كلاما تاما. فإذن يحمل على فعل آخر دل عليه المذكور. كأنه قال : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، أرسلناهم بالبينات ، فأضمر ، لجري ذكره. قال : ومثله : [قول الشاعر] :
٢٠٧ ـ وليس مجيرا ، إن أتى الحيّ خائف |
|
ولا [قائلا (٧)]إلا هو المتعيبّا (٨) |
فنصب المتعيب ، ب (يقول) مضمر ، لجري ذكر (قائل). فأما قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)(٩) ، فإنه قال (١٠) : لا أعلّق قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ، ب (يكلم) المنصوب ، في قوله : (أَنْ يُكَلِّمَهُ) ، لأن في ذاك ، إعمال ما قبل (إلا) فيما بعده ، وذلك ممتنع. ولكني أعلّقه ب (يكلم) آخر ، مضمر ، لجري ذكره. ويجوز أن يعلّق بمضمر ، كما جاء :
__________________
(١) ٧٣ : سورة المزمل ١ ـ ٣.
(٢) الإنصاف (مسألة ٣٦) ١ : ٢٧٥ ، ٢٧٦.
(٣) معاني القرآن ـ للفراء ١ : ٨.
(٤) ١ : سورة الفاتحة ٧.
(٥) مجمع البيان ١ : ٣٠.
(٦) ١٦ : سورة النحل ٤٣ ، ٤٤.
(٧) في الأصل : ولا قائل ، وهو وهم ، لأن (قائلا) معطوف على (مجيرا) خبر ليس.
(٨) البيت من الطويل ، للأعشى ، في : ديوانه ١١٣ ، واللسان (عيب) ١ : ٦٦٣ ، والتاج (عيب) ٣ : ٤٥٠.
(٩) ٤٢ : سورة الشورى ٥١.
(١٠) أي : أبو علي ، في : كتابه (التذكرة).