[قلت] : جاءت (إنّ) و (ثمّ) على الأصل من البناء ، لأن أصل الحروف ، البناء. وحرك لالتقاء الساكنين. ولم يقل : (أن) و (ثم) لأن الكسرة مع الكسرة. والضمة مع الكسرة ثقيلان ، والفتح أولى منهما.
[قال أبو الفتح] : والكسر يكون في الاسم ، نحو : هؤلاء ، وأمس.
[قلت] : إنما بني (أمس) لتضمنه معنى (لام التعريف) وذلك أن (أمس) معرفة ، وليس فيه حرف التعريف ، ولا هو مبهم ، ولا مضمر ، ولا إشارة ، ولا مضاف ، ولا علم ، فتضمن (اللام) فوجب له البناء ، وحرك لالتقاء الساكنين ، وكسر لأن الكسر أصل في هذا الباب بعد السكون. [فإن قلت] :
فما تقول في (الأمس) إذا دخلت عليه لام التعريف أهو مبني أم معرب؟
[الجواب] : العرب في هذا على مذهبين : الإعراب ، والبناء. أما الإعراب ، فلأنه اسم ، وليس متضمنا لمعنى حرف. وأما البناء ، فإن هذا اللام الذي ظهر فيه ، لم يفد شيئا ، حين كان الاسم متضمنا له. ألا ترى أنه لا فرق بين قول القائل : أمس ، والأمس كما هو حاصل في قوله : رجل ، والرجل. ألا ترى أن (أمس) معرفة ، كما أن (الأمس) معرفة. فالألف ، واللام في الأمس على هذا ، كالألف ، واللام في : الذي والآن ، والوليد بن اليزيد (١) ، وبنات الأوبر ، في [٨ / أ] قول الشاعر :
٦ ـ ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا |
|
ولقد نهيتك عن بنات الأوبر (٢) |
[فإن قلت] : ولم كان الكسر الأصل بعد السكون؟ [قلت] : إن الكسر أقل تصرفا من الضم والفتح. ألا ترى أن : باب ما لا ينصرف ، وباب الأفعال ، قد منعا من الكسر ، فكان هو الأولى بعد السكون ، لقلة تصرفه.
وأما (هؤلاء) فإن الكلام فيه أنه مبني. وقال أبو سعيد (٣) : إنما بني ، لأنه تضمن معنى الإشارة (٤) ، والإشارة معنى يستفاد من الحروف ، لأن الحروف هي الموضوعة لمثل هذه المعاني.
فهو اسم تضمن معنى الحرف ، فيجب له البناء. ولو قيل له : إن الذي زعمت ، إنما يتصور
__________________
(١) الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، ولد (٨٨ ه). ولي الخلافة الأموية (١٢٥ ه) ، وقتل سنة (١٢٦ ه).
ينظر : تاريخ الطبري ٦ : ٤٣٤ ، ٧ : ٢٠٩ ، والعقد الفريد ٤ : ٤٥٢.
(٢) البيت من الكامل. أنشده ابن منظور في اللسان (وب ر) ٥ : ٢٧١ ، وأسند روايته للأحمر ، والأصمعي ، ولم ينسبه إلى قائل معين. وهو بلا نسبة في : الإنصاف ١ : ٣١٩ ، والمغني ١ : ٥٢ ، وأوضح المسالك ٢٩٣ ، وابن عقيل ١ : ١٨١.
جنيتك أي : جنيت لك ، على حد قوله تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) ٨٣ : سورة المطففين ٣ ، أي : كالوا لهم أو وزنوا لهم ، والأكمؤ ، والعساقل : ضربان من الكمأة. وبنات الأوبر : علم على ضرب آخر من الكمأة ، اللسان (وب ر) ٥ : ٢٧١.
(٣) هو : الحسن بن عبد الله ، السيرافي ، النحوي (ت ٣٦٨ ه). قرأ على ابن مجاهد (القرآن) ، وقرأ على أبي بكر بن دريد (اللغة ، والنحو) ، وقرأ على أبي بكر بن السراج ، وأبي بكر مبرمان (النحو). من أشهر تصانيفه : (شرح كتاب سيبويه). كان عالما فاضلا ، معدوم النظير في علم النحو خاصة. ينظر : طبقات النحويين واللغويين ١١٩ ، ونزهة الألباء ٣٢٧ ـ ٣٢٩ ، والبلغة ٦١.
(٤) الكتاب : ٧٩٢ ، وفيه : (هؤلاء بمنزلة هذا ، وأولئك بمنزلة ذاك).