[لقيت من طرفهم] (١) فقلت : دخلت يوما إلى مستقرهم ، فرأيت مراتبهم على مقدار بليتهم ، وإذا قوم قيام قد شدت أيديهم إلى الحيطان بالسلاسل ، ونقبت من البيوت التي هم بها إلى غيرها مما يجاورها ، لأن علاج أمثالهم أن يقوموا الليل والنهار لا يقعدون ولا يضطجعون ، ومنهم من يجلب على رأسه ويدهن أوراده ، ومنهم من ينهل ويعل بالدواء حسبما يحتاجون إليه ، فدخلت مع ابن أبي خميصة وكان المتقلد للنفقة عليهم ، ولتفقد أحوالهم ، فنظروا إليه وأنا معه فأمسكوا عما كانوا عليه ، فمررت على شيخ منهم تلوح صلعته ، وتبرق للدهن جبهته ، وهو جالس على حصير نظيف ووجهه إلى القبلة كأنه يريد الصلاة ، فجاوزته إلى غيره فناداني : سبحان الله ـ أين السلام ، من المجنون؟ ترى أنا أو أنت؟ فاستحييت منه ، وقلت : السلام عليكم. فقال : لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد عليك ، على أنا نصرف سوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر ، لأنه كان يقال : إن للداخل على القوم دهشة ، اجلس أعزك الله عندنا ، وأومأ إلى موضع من حصير ينفضه كأنه يوسع لي ، فعزمت على الدنو منه فناداني ابن أبي خميصة : إياك إياك ، فأحجمت عن ذلك ووقفت ناحية أستجلب مخاطبته ، وأرصد الفائدة منه : ثم قال وقد رأى معى محبرة يا هذا أرى آلة رجلين ، أرجو أن لا تكون أحدهما ، أتجالس أصحاب الحديث الأغثاء ، أم الأدباء أصحاب النحو والشعر؟ قلت : الأدباء ، قال : أتعرف أبا عثمان المازني؟ قلت نعم ـ معرفة ثابتة ، قال فتعرف الذي يقول فيه :
وفتى من مازن |
|
ساد أهل البصرة |
أمّه معرفة |
|
وأبوه نكره |
قلت : لا أعرفه. قال فتعرف غلاما له قد نبغ في هذا العصر معه ذهن وله حفظ ، قد برز في النحو ، وجلس في مجلس صاحبه وشاركه فيه يعرف بالمبرد؟ قلت أنا والله عين الخبير به ، قال : فهل أنشدك شيئا من عبثات شعره؟ قلت : لا أحسبه يحسن قول الشعر ، قال : يا سبحان الله أليس هو الذي يقول :
حبذا ماء العناقي |
|
د بريق الغانيات |
بهما ينبت لحمي |
|
ودمي أىّ نبات |
أيّها الطالب أشهى |
|
من لذيذ الشّهوات |
كل بماء المزن تفا |
|
ح الخدود النّاعمات |
__________________
(١) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.