بعض ، لأن لفظ النار يجمعها. وقال ابن عمر : أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون. وتصديق ذلك في كتاب الله هذه الآية في المنافقين : و (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١) و (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٢) وإنما كان المنافق أشدّ عذابا من غيره من الكفار لأنه مثله في الكفر ، وضم إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله ، والمداجاة واطلاع الكفار على أسرار المسلمين فهو أشد غوائل من الكفار وأشد تمكينا من أذى المسلمين.
وقرأ الحرميان والعربيان : في الدرك بفتح الراء. وقرأ حمزة ، والكسائي ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب : بسكونها ، واختلف عن عاصم. وروى الأعمش والبرجمي : الفتح ، وغيرهما الإسكان. قال أبو علي : وهما لغتان كالشمع والشمع ، واختار بعضهم الفتح لقولهم : في الجمع أدراك كجمل وإجمال يعني : أنه ينقاس في فعل أفعال ، ولا ينقاس في فعل. وقال عاصم : لو كان بالفتح لقيل : السفلى. قال بعضهم : ذهب عاصم إلى أنّ الفتح إنما هو على أنه جمع دركة كبقرة وبقر انتهى. ولا يلزم ما ذكره من التأنيث ، لأن الجنس المميز مفرده بهاء التأنيث ، يؤنث في لغة الحجاز ، ويذكر في لغة تميم ونجد ، وقد جاء القرآن بهما ، إلا ما استثني لأنه يتحتم فيه التأنيث أو التذكير ، وليس دركة ودرك من ذلك ، فعلى هذا يجوز تذكير الدرك وتأنيثه.
(وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) أي مانعا من العذاب ولا شافعا يشفع.
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم ، وتمسكوا بالله وكتابه ، ولم يكن لهم ملجأ ولا ملاذ إلا الله ، وأخلصوا دينهم لله أي : لا يبتغون بعمل الطاعات إلا وجه الله تعالى. ولما كان المنافق متصفا بنقائص هذه الأوصاف من الكفر وفساد الأعمال والموالاة للكافرين والاعتزاز بهم والمراءاة للمؤمنين ، شرط في توبتهم ما يناقض تلك الأوصاف وهي التوبة من النفاق ، وهي الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى. ثم فصل ما أجمل فيها ، وهو الإصلاح للعمل المستأنف المقابل لفساد أعمالهم الماضية ، ثم الاعتصام بالله في المستقبل وهو المقابل لموالاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي ، ثم الإخلاص لدين الله وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي ، ثم بعد تحصيل هذه الأوصاف جميعها
__________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٥.
(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٤٦.