قوله : ولا الملائكة يكون من باب عطف الجمل لاختلاف الخبر. وإن لحظ في قوله : ولا الملائكة معنى : ولا كل واحد من الملائكة ، كان من عطف المفردات. وقد تشبث بهذه الآية من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء. قال ابن عطية : ولا الملائكة المقربون زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان أي : ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك ، فكيف من سواهم؟ وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء انتهى. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : من أين دل قوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على أن المعنى ولا من فوقه؟ (قلت) : من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك ، وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية ، فوجب أن يقال لهم : لن يرتفع عيسى عن العبودية ، ولا من هو أرفع منه درجة. كأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية ، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة ، ومثاله قول القائل :
وما مثله ممن يجاود حاتم |
|
ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره |
لا شبهة بأنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) (١) حتى يعترف بالفرق البين انتهى كلامه. والتفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع ، إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل ، وأما الآية فقد يقال : متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول ، ولا أن ذلك من باب الترقي. (فإذا قلت) : لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمر ، وفلا دلالة فيه على أنّ عمرا أفضل من زيد. وإن سلّمنا ذلك فليست الآية من هذا القبيل ، لأنه قابل مفردا بجمع ، ولم يقابل مفردا بمفرد ولا جمعا بجمع. فقد يقال : الجمع أفضل من المفرد ، ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع ، ولا المفرد على المفرد. وإن سلمنا أنّ المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه ، فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملك وترفيعه ، حتى أنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية ، ولا يدل تحيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضل وأعظم ثوابا ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى حكاية عن النسوة التي فاجأهنّ
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٢.