وقال قوم : في قتيل اليهود من قريظة والنضير. وقال قوم : التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم. ومذهب الشافعي : أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه ، لأنّ في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم ، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم ، بل يتخير في ذلك ، وهو التخيير الذي في الآية وهو مخصوص بالمعاهدين. وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي.
(وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي أنت آمن من ضررهم ، منصور عليهم على كل حال. وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فالجلد مكان الرجم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم ، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه ، فأمنه الله منهم ، وأخبره أنهم ليسوا قادرين على شيء من ضرره.
(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي : وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين. والقسط : هو المبين في قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (١) ، وهو صلىاللهعليهوسلم لا يحكم إلا بالقسط ، فهو أمر معناه الخبر أي : فحكمك لا يقع إلا بالعدل ، لأنك معصوم من اتباع الهوى.
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وأنت سيدهم ، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم. وفيه حث على توخي القسط وإيثاره ، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به.
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه. وفي كتابهم الذي يدعون الإيمان به حكم الله تعالى نص جلي ، فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة ، وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده صلىاللهعليهوسلم رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعا لأهوائهم ، وأنهما كافي شهواتهم. ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لا يؤمن به ولا بكتابه ، فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه. وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم ، فلأن يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى. والواو في : وعندهم ، للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر ، وقوله : فيها. حكم الله ، حال من التوراة ، وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي : كائنا فيها حكم الله. ويجوز أن يكون فيها في موضع رفع خبرا عن التوراة كقولك : وعندهم
__________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ٤٢.