الجملة التي هي فيه هدى ، فإنها جملة في موضع الحال انتهى. وإنما قال : إن مصدقا ، حال مؤكدة من حيث المعنى ، لأنه يلزم من كون الإنجيل كتابا إلهيا أن يكون مصدقا للكتب الإلهية ، لكن قوله : معطوفة على الجملة التي هي فيه هدى ، فإنها جملة في موضع الحال قول مرجوح ، لأنّا قد بينا أنّ قوله : فيه هدى ونور من قبيل المفرد لا من قبيل الجملة ، إذ قدرناه كائنا فيه هدى ونور ، ومتى دار الأمر بين أن يكون الحال مفردا أو جملة ، كان تقدير المفرد أجود على تقدير أنه جملة يكون ذلك من القليل ، لأنها جملة اسمية ، ولم تأت بالواو ، وإن كان يغني عن الرابط الذي هو الضمير ، لكن الأحسن والأكثر أن يأتي بالواو ، حتى أنّ الفراء زعم أن عدم الواو شاذ ، وإن كان ثم ضمير ، وتبعه على ذلك الزمخشري. قال علي بن أبي طالب : ومصدقا معطوف على مصدقا الأول انتهى. ويكون إذ ذاك حالا من عيسى ، كرره على سبيل التوكيد ، وهذا فيه بعد من جهة التركيب واتساق المعاني ، وتكلفه أن يكون وآتيناه الإنجيل جملة حالية معطوفة على مصدّقا.
(وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) قرأ الضحاك : وهدى وموعظة بالرفع ، وهو هدى وموعظة. وقرأ الجمهور : بالنصب حالا معطوفة على قوله : ومصدقا ، جعله أولا فيه هدى ونور ، وجعله ثانيا هدى وموعظة. فهو في نفسه هدى ، وهو مشتمل على الهدى ، وجعله هدى مبالغة فيه إذ كان كتاب الإنجيل مبشرا برسول الله صلىاللهعليهوسلم والدلالة منه على نبوته ظاهرة. ولما كانت أشد وجوه المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى ذلك ، أعاد الله ذكر الهدى تقريرا وبيانا لنبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم ، ووصفه بالموعظة لاشتماله على نصائح وزواجر بليغة ، وخصصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها ، كما قال تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (١) فهم المقصودون في علم الله تعالى ، وإن كان الجميع يدعي ويوعظ ، ولكنه على غير المتقين عمى وحسرة ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله : وليحكم. قال : كأنه قيل : وللهدى والموعظة آتيناه الإنجيل ، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام. وينبغي أن يكون الهدى والموعظة مسندين في المعنى إلى الله ، لا إلى الإنجيل ، ليتحد المفعول من أجله مع العامل في الفاعل ، ولذلك جاء منصوبا. ولما كان : وليحكم ، فاعله غير الله ، أتى معدي إليه بلام العلة. ولاختلاف الزمان أيضا ، لأن الإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان ، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء ، فعدى أيضا لذلك
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢.