تحققهم بالكفر وتماديهم عليه ، وأنّ رؤية الرسول لم تجد عنهم ، ولم يتأثروا لها. وكذلك إن كان ضمير الخطاب في : وإذا جاءوكم قالوا آمنا ، كان ينبغي لهم أن يؤمنوا ظاهرا وباطنا لما يرون من اختلاف المؤمنين وتصديقهم للرسول ، والاعتماد على الله تعالى والرغبة في الآخرة ، والزهد في الدنيا ، وهذه حال من ينبغي موافقته. وكان ينبغي إذ شاهدوهم أن يتبعوهم على دينهم ، وأن يكون إيمانهم بالقول موافقا لاعتقاد قلوبهم. وفي الآية دليل على جواز مجيء حالين لذي حال واحد ، إن كانت الواو في : وهم ، واو حال ، لا واو عطف ، خلافا لمن منع ذلك إلا في أفعل التفضيل. والظاهر أنّ الدخول والخروج حقيقة. وقيل : هما استعارة ، والمعنى : تقلبوا في الكفر أي دخلوا في أحوالهم مضمرين الكفر وخرجوا به إلى أحوال أخر مضمرين له ، وهذا هو التقلب. والحقيقة في الدخول انفصال بالبدن من خارج مكان إلى داخله ، وفي الخروج انفصال بالبدن من داخله إلى خارجه.
(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) أي من كفرهم ونفاقهم. وقيل من صفة محمد صلىاللهعليهوسلم ونعته وفي هذا مبالغة في إفشاء ما كانوا يكتمونه من المكر بالمسلمين والكيد والعداوة.
(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يحتمل ترى أن تكون بصرية ، فيكون يسارعون صفة. وأن تكون علمية ، فيكون مفعو ثانيا. والمسارعة : الشروع بسرعة. والإثم الكذب. والعدوان الظلم. يدل قوله عن قولهم الإثم على ذلك ، وليس حقيقة الإثم الكذب ، إذ الإثم هو المتعلق بصاحب المعصية ، أو الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعدى بهم إلى غيرهم. أو الإثم الكفر ، والعدوان الاعتداء. أو الإثم ما كتموه من الإيمان ، والعدوان ما يتعدى فيها. وقيل : العدوان تعديهم حدود الله أقوال خمسة. والجمهور على أن السحت هو الرشا ، وقيل : هو الربا ، وقيل : هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث. وعلق الرؤية بالكثير منهم ، لأن بعضهم كان لا يتعاطى ذلك المجموع أو بعضه. وأكثر استعمال المسارعة في الخير ، فكان هذه المعاصي عندهم من قبيل الطاعات ، فلذلك يسارعون فيها. والإثم يتناول كل معصية يترتب عليها العقاب ، فجرد من ذلك العدوان وأكل السحت ، وخصا بالذكر تعظيما لهاتين المعصيتين وهما : ظلم غيرهم ، والمطعم الخبيث الذي ينشأ عنه عدم قبول الأعمال الصالحة. وقرأ أبو حيوة : العدوان بكسر ضمة العين ، وتقدم الكلام في ما بعد بئس في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ) (١).
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٠.