كانوا مخصبين وقالوا ذلك عنادا واستهزاء وتهكما انتهى. والظاهر أن قولهم : يد الله مغلولة خبر ، وأبعد من ذهب إلى أنه استفهام. أيد الله مغلولة حيث قتر المعيشة علينا ، وإلى أنها ممسوكة عن العطاء ذهب : ابن عباس ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج. أو عن عذابهم إلا تحلة القسم بقدر عبادتهم العجل قاله : الحسن. أو إلى أن يرد علينا ملكنا. قال الطبري : غلت أيديهم خبر ، وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة. قاله الحسن : أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم قاله الزجاج. وقال مقاتل : أمسكت عن الخير. وقيل : هو دعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم. والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله دابره ، لأن السب أصله القطع. (فإن قلت) : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ (قلت) : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ، فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكدا إلى نكدهم ، وبما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم ، وسوء الأحدوثة التي تخزيهم ، وتمزّق أعراضهم انتهى كلامه. وأخرجه جار على طريقة الاعتزال. والذي يظهر أنّ قولهم : يد الله مغلولة ، استعارة عن إمساك الإحسان الصادر من المقهور على الإمساك. ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة ، ولا يغل إلا المقهور ، فجاء قوله : غلت أيديهم ، دعاء عليهم بغل الأيدي ، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون ، لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي ، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم ، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضر ينزل بهم ، وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم : يد الله مغلولة ، وليست هذه المقالة بدعا منهم فقد قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) (١).
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أن يكون عاما فيما نسبوه إلى الله مما لا يجوز نسبته إليه ، فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا. وقرأ أبو السمال : بسكون العين كما قالوا : في عصر عصرون. وقال الشاعر :
لو عصر منه البان والمسك انعصر
ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين ، فحسن التخفيف.
__________________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٨١.