المائدة يترجح قول من قال : كان سؤالهم ذلك قبل علمهم بآيات عيسى ومعجزاته وإن وحي الله إليهم بالإيمان كان في صدر الأمر وعند ذلك قالوا هذه المقالة ثم آمنوا ورأوا الآيات واستمروا وصبروا.
وقرأ ابن جبير : (وَنَعْلَمَ) بضم النون مبنيا للمفعول وهكذا في كتاب التحرير والتحبير وفي كتاب ابن عطية. وقرأ سعيد بن جبير ويعلم بالياء المضمومة والضمير عائد على القلوب ، وفي كتاب الزمخشري ويعلم بالياء على البناء للمفعول. وقرأ الأعمش وتعلم بالتاء أي وتعلمه قلوبنا. وقرأ الجمهور و (نَكُونَ) بالنون وفي كتاب التحرير والتحبير. وقرأ سنان وعيسى وتكون عليها بالتاء وفي الزمخشري وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم للإيمان والإخلاص وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا انتهى. وإنما قال ذلك لأنه ليس عنده الحواريون مؤمنين وإذا ولي أن المخففة من الثقيلة فعل متصرف عن دعاء فإن كان ماضيا فصل بينهما بقد نحو قوله (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) وإن كان مضارعا فصل بينهما بحرف تنفيس كقوله (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) (١) ولا يقع بغير فصل قيل إلا قليلا. وقيل إلا ضرورة وفيما تتعلق به عليها التي تقدمت في نحو (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢) ، وقال الزمخشري عاكفين عليها على أن عليها في موضع الحال انتهى.
وهذا التقدير ليس بجيد لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوبا إلّا إذا كان كونا مطلقا لا كونا مقيدا والعكوف كون مقيد ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال كان العامل فيها عاكفين المقدر وقد ذكرنا أنه ليس بجيد ثم إن قول الزمخشري مضطرب لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين كانت في موضع نصب على المفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر وإذا كانت في موضع الحال كان العامل فيها كونا مطلقا واجب الحذف فظهر التنافي بينهما.
(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) روي أن عيسى لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو تقدّم الكلام على لفظة (اللهُمَ) في آل عمران ونادى ربه أولا بالعلم الذي لا شركة فيه ثم ثانيا بلفظ (رَبَّنا) مطابقا إلى مصلحنا ومربينا ومالكنا. وقرأ الجمهور (تَكُونُ لَنا) على أن الجملة صفة لمائدة. وقرأ عبد الله والأعمش يكن بالجزم على
__________________
(١) سورة المزمل : ٧٣ / ٢٠.
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٢١.