يظهر من كلام ابن عطية أنه يعني بقوله إذ قد تخصصت أي استعملت ، في الدعاء فلم تبق النكرة على مطلق مدلولها الوصفي إذ قد استعملت يراد بها أحد ما تحتمله النكرة.
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجبها والبارئ تعالى لا يجب عليه شيء عقلا إلا إذا أعلمنا أنه حتم بشيء فذلك الشيء واجب. وقيل : (كَتَبَ) وعد والكتب هنا في اللوح المحفوظ. وقيل : في كتاب غيره ، وفي صحيح البخاري «إن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي» ، وهذه الجملة مأمور بقولها تبشيرا لهم بسعة رحمة الله وتفريحا لقلوبهم.
(أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) السوء : قيل : الشرك. وقيل المعاصي ، وتقدم تفسير عمل السوء بجهالة في قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) (١) فأغنى عن إعادته.
(ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي من بعد عمل السوء (وَأَصْلَحَ) شرط استدامة الإصلاح في الشيء الذي تاب منه. قرأ عاصم وابن عامر أنه بفتح الهمزتين فالأولى بدل من الرحمة والثانية خبر مبتدأ محذوف تقديره فأمره أنه أي أن الله غفور رحيم له ، ووهم النحاس فزعم أن قوله (فَأَنَّهُ) عطف على أنه وتكرير لها لطول الكلام وهذا كما ذكرناه وهم ، لأن (مَنْ) مبتدأ سواء كان موصولا أو شرطا فإن كان موصولا بقي بلا خبر وإن كان شرطا بقي بلا جواب. وقيل : إنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره عليه أنه من عمل. وقيل : فإنه بدل من أنه وليس بشيء لدخول الفاء فيه ولخلو (مَنْ) من خبر أو جواب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والاخوان بكسر الهمزة فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب. وقرأ نافع بفتح الأولى على الوجهين السابقين وكسر الثانية على وجهها أيضا ، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاها الزهراوي عن الأعرج. وحكى سيبويه عنه مثل قراءة نافع. وقال الداني : قراءة الأعرج ضد قراءة نافع و (بِجَهالَةٍ) في موضع نصب على الحال أي وهو جاهل وما أحسن مساق هذا المقول أمره أولا أن يقول للمؤمنين سلام عليكم فبدأ أولا بالسلامة والأمن لمن آمن ثم خاطبهم ثانيا بوجوب الرحمة وأسند الكتابة إلى ربهم أي كتب الناظر لكم في مصالحكم والذي يربيكم ويملككم الرحمة فهذا تبشير بعموم الرحمة ، ثم أبدل منها شيئا خاصا وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح ،
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ١٧.