بأن خذلهم حتى ارتكسوا فيه لما علم من مرض قلوبهم انتهى. وهو جار على عقيدته الاعتزالية ، فلا ينسب الإركاس إلى الله حقيقة ، بل يؤوّله على معنى الخذلان وترك اللطف ، أو على الحكم بكونهم من المشركين. إذ هم فاعلو الكفر ومخترعوه ، لا الله تعالى الله عن قولهم.
وقرأ عبد الله : ركسهم ثلاثيا. وقرئ : ركسهم ركسوا فيها بالتشديد ، قال الراغب : الركس والنكس الرذل ، والركس أبلغ من النكس ، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه ، والركس أصله ما رجع رجيعا بعد أن كان طعاما فهو كالرجس وصف أعمالهم به ، كما قال : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (١) وأركسه أبلغ من ركسه ، كما أنّ أسقاه أبلغ من سقاه انتهى. وهذه الجملة في موضع الحال ، أنكر تعالى عليهم اختلافهم في هؤلاء المنافقين في حال أنّ الله تعالى قد ردهم في الكفر ، ومن يرده الله إلى الكفر لا يختلف في كفره.
(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) هذا استفهام إنكار أي : من أراد الله ضلاله ، لا يريد أحد هدايته لئلا تقع إرادته مخالفة لإرادة الله تعالى ، ومن قضى الله عليه بالضلال لا يمكن إرشاده ، ومن أضل الله اندرج فيه المركسون وغيرهم. ممن أضله الله فكأنه قيل : أتريدون أن تهدوا هؤلاء المنافقين؟ ومن أضله الله تعالى من غيرهم واندراجهم في عموم من بعد قوله : والله أركسهم ، هو على سبيل التوكيد ، إذ ذكروا أولا على سبيل الخصوص ، وثانيا على سبيل اندراجهم في العموم. وقال الزمخشري : أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين؟ من أضله الله من جعله من الضلال وحكم عليه بذلك ، أو خذله حتى ضل انتهى. وهو على طريقته الاعتزالية من أنه لا ينسب الإضلال إلى الله على سبيل الحقيقة.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي : فلن تجد لهدايته سبيلا. والمعنى : لخلق الهداية في قلبه ، وهذا هو المنفي. والهداية بمعنى الإرشاد والتبيين ، هي للرسل. وخرج من خطابهم إلى خطاب الرسول على سبيل التوكيد في حق المختلفين ، لأنه إذا لم يكن له ذلك ، فالأحرى أن لا يكون ذلك لهم. وقيل : من يحرمه الثواب والجنة لا يجد له أحد طريقا إليهما. وقيل : من يهلكه الله فليس لأحد طريق إلى نجاته من الهلاك. وقيل : ومن يضلل الله فلن تجد له مخرجا وحجة.
(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) من أثبت أن لو تكون مصدرية قدره :
__________________
(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٨.