باب التوكيد
اعلم أن الغرض في البدل خلاف الغرض في النعت ، وذلك أن النعت إنما يؤثر به بيانا للمنعوت فيصير في التقدير كجزء من المنعوت ، وأما البدل فالغرض فيه أن يجمع المخاطب البدل والمبدل منه على أنه قد يجوز أن يفهم بالمبدل منه وحده ، وقد يجوز أن يفهم بهما جميعا كقولك : مررت بأخيك زيد ، فالمخاطب يجوز أن يعرف زيدا باسمه أو بأنه أخ للمخاطب أو بمجموعهما ، فهذا (١) الفصل بين البدل والنعت ، وأما التوكيد فالغرض إثبات الخبر عن المخبر عنه وذلك أنك إذا قلت : جاءني زيد نفسه ، أخبرت أن الذي تولى المجيء هو بعينه ، فلذلك دخل التوكيد في الكلام ولهذه العلّة لم يجز أن تؤكد النكرة ؛ لأنه ليس لها عين ثابتة كالمعارف ، فلم يحتج إلى إثباتها إذ كانت لا تثبت بالتوكيد فلهذا أسقط التوكيد عنها.
ولما كانت المضمرات معارف جاز توكيدها ؛ لأن أعيانها ثابتة إلا أن يكون المضمر مجهولا فلا يجوز توكيده كالمضمر بعد رب نحو قولك : ربه رجلا ، وكالمضمر بعد نعم وبئس ، وما أشبه ذلك.
واعلم أن الأسماء التي يؤكد بها لها مراتب ، فالنفس والعين يجب تقديمهما على كل حال ، (٢) وإنما كانا بالتقديم أولى لأنهما قد يستعملان غير مؤكّدين كقولك : نزلت بنفس الجبل ، ورأيت عين زيد ، فلما كانا يستعملان مفردين لغير معنى التوكيد ، وكان (كلا) و (أجمعون) لا يجوز أن يستعملا إلا تابعين أو في تقدير التابع وجب أن يقدم ما يقوم بنفسه على التابع ، وأما تقديم (كل) على أجمعين فإنما ذلك ؛ لأن (كلا) قد تستعمل مبتدأة كقولهم : كلهم منطلقون ، ولا يجوز أن تقول : أجمعون منطلقون ، فلما كانت كل قد تستعمل مبتدأة ، وليس قبلها ما
__________________
(١) في الأصل : فلهذا.
(٢) يعني تقديمهما على غيرهما من ألفاظ التأكيد.