ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه ، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة ، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به ، فزيادة (مِنْ لَدُنْكَ) للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك ، لأن في (من) معنى الابتداء وفي (لدن) معنى العندية والانتساب إليه ، فذلك أبلغ مما لو قالوا : آتنا رحمة ، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله ، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها ، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة ، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألما ، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين.
ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالا تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء.
و (من) في قوله : (مِنْ أَمْرِنا) ابتدائية.
والأمر هنا : الشأن والحال الذي يكونون فيه ، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك. وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم. فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم ، وأن ألهمهم موضع الكهف ، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمة ، وأن أنامهم نوما طويلا ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة ، وحصل رشدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصورا متبعا ، وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث.
والرّشد ـ بفتحتين ـ : الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح ، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني. والرشد ـ بضم الراء وسكون الشين ـ مرادف الرّشد. وغلب في حسن تدبير المال. لم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا ـ بفتح الراء ـ بخلاف قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) في البقرة [٢٥٦] ، وقوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) في سورة النساء [٦] فلم يقرأ فيهما إلا ـ بضم الراء ـ.
ووجه إيثار ـ مفتوح الراء والشين ـ في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) [الكهف : ٢٤] : أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل ؛ ألا ترى أن الجمهور قرءوا قوله في هذه السورة : (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [الكهف : ٦٦] ـ بضم الراء لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له وهي (مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] ـ (مَعِيَ صَبْراً)