غيرهم وينسون أنفسهم مع أنهم يتلون الكتاب الذي : هو التوراة هنا ، وهي تأمرهم بالبر الحقيقي وتعظهم. فصار معنى الآية : كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب ـ وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير ـ أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون به الناس ، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب ، وتعرفون ما فيه على من قصر في أوامر الله. أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه؟ أفلا تفطنون إلى ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم وتبصروا من عمايتكم؟ ألا عقول لكم توصلكم إلى هذا؟!!
وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له ، بل على تركهم له ، فإن الأمر بالمعروف واجب على العالم ، ولكن الواجب الأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ، ولا يتخلف عنهم فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر ، فالصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه مع إثمه بالتفريط وقصوره ونقصانه ، فالآية إذن تلوم على الجانب الثاني ولا تنكر فعل الأول ، ومن ثم قال سعيد بن جبير : «لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شىء ما أمر أحد بمعروف ، ولا نهى عن منكر» قال مالك : (وصدق من ذا الذي ليس فيه شىء؟) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة ، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ، ولهذا جاءت الأحاديث والآثار في الوعيد على ذلك :
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار ، فيقولون يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف ، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» هذه رواية أحمد.
وأخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء». وقد ورد في بعض الآثار : فإنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ليس من يعلم كمن لا يعلم.
وأخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار قال : قلت من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ، أفلا يعقلون؟».