لمّا كان كون إنزال الماء وإنبات النّبات والأشجار آية محتاجا الى تأمّل وترتيب مقدّمات قال : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) قرئ الشّمس والقمر والنّجوم مسخّرات كلّها بالرّفع ، وقرئ الشّمس والقمر بالنّصب والنّجوم مسخّرات بالرّفع ، وقرئ الجميع بالنّصب وفائدة الحال المؤكّدة تأكيد التّسخير وبيان واسطة التّسخير وهو عالم الأمر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يكفيه العقل من غير فكر لظهور دلالة المذكورات بالنّسبة الى إنزال الماء وإنبات النّبات وجمع الآيات لكون كلّ منها آية على حياله (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) وسخّر لكم ما خلق لكم (فِي الْأَرْضِ) من المواليد من المعادن وأصناف النّبات وأنواع الحيوان والعناصر وما في الأرض من الجبال والوهاد والتّلال ، والمراد بتسخيرها تسخيرها فيما خلق لأجله لا تسخيرها للإنسان نحو تسخير الحيوان للإنسان ولكن تسخيرها بالمطاوعة للإنسان في وجه الانتفاع بها وان كان وجه الانتفاع ببعضها مخفيّا ، أو ما ذرأ مبتدء ولكم خبره أو في الأرض خبره والجملة حال أو عطف على جملة هو الّذى انزل ، أو على جملة سخّر لكم اللّيل (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) اكتفى ببيان اختلاف اللّون عن ذكر اختلاف النّوع وجهات الانتفاع لانّه الظّاهر على الأبصار والأغلب انّ الأنواع المختلفة بالّذات مختلفة باللّون (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) لا يكفيه العقل فقط ولا يحتاج الى التّفكّر بل يكفيه تذكّر العقل (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) كأنواع ما يخرج من البحر (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) جواري من المخر وهو شقّ الماء أو صوت شقّ الماء (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتّجارات (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يعنى غاية الكلّ ان تنظروا الى الانعام وتشكروا حقّ النّعمة برؤيتها من المنعم (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة ان تميد الأرض بكم باضطرابها.
اعلم ، انّ الأرض كرويّة الشّكل حيّزها حول مركز العالم بحيث انّ كلّ جزء من اجزائها لتوافقها مع الكلّ في الطّبع لو خلّى وطبعه لما استقرّ الّا في حيّز المركز كما هو المشهود ، ولو كان الاجزاء طالبة للكلّ ولسنخها كما قيل للزم عدم افتراق ما اتّصل بقلل الجبال الى السّفل والأرض ساكنة في حيّزها غير متحرّكة ، وان قال بحركتها المتحدّسون بقوّة الحسّ وليست تلك الكرة كالكرة الواقعة في الماء الطّافية فوق الماء حتّى تحتاج الى ما يسكنها عن الحركة والانقلاب وليست الجبال بما يزيد في سكونها لانّه ليس ارتفاع الجبال المرتفعة البالغة غاية الارتفاع بالنّسبة الى قطر الكرة الّا مقدار شعيرة أو اقلّ ، وظاهر الآية يدلّ على انّ تلك الكرة لو لم يكن الجبال تضطرب وتنقلب وتتحرّك ولا يمكن التّعيّش عليها الّا بالجبال فنقول : انّ الجبال وان لم تكن أسبابا لسكون الكرة كما عرفت لكنّه قد يقع الزّلزلة القويّة بأسباب سماويّة وارضيّة ولو لا الجبال لسرت تلك الزّلزلة الى مجاورات القطعة الّتى وقعت فيها الزّلزلة مسافات كثيرة والجبال تمنع من تلك السّراية كما لا يخفى ، وهذا القدر كافى في صدق ظاهر الآية مع انّ المقصود بطونها ، وأيضا قد سلف منّا انّ العالم بتمام اجزائه مظاهر لا سماء الله وانّ خلفاء الله أسماء الله العظماء والجبال مظاهر لها بسكونها وارتفاعها وثقلها وصلابتها وجريان المياه من تحتها ، وقد يجرى احكام الظّاهر على المظاهر كما مضى من جريان احكام القلب والصّدر على بيت الله ومكّة ، وقد ورد في الاخبار لو لا الامام لماجت الأرض بأهلها ، أو لو فقد الحجّة لساخت الأرض بأهلها ، وغير ذلك من الاخبار فبوجود خلفاء الله (ع) وجود الأرض وسكونها وقرارها ، ولمّا كانت الجبال مظاهر لخلفاء الله حكم عليها انّ