قال صالح : ثمّ خلّي عنه (١) ، فصار إلى منزله. وكان مكثه في السّجن منذ أخذ وحمل إلى ضرب وخلّي عنه ثمانية وعشرين شهرا. ولقد أخبرني أحد الرجلين اللّذين كانا معه قال : يا ابن أخي ، رحمة الله على أبي عبد الله ، والله ما رأيت أحدا يشبهه. ولقد جعلت أقول له في وقت ما يوجّه إلينا بالطّعام : يا أبا عبد الله ، أنت صائم وأنت في موضع تقيّة (٢).
ولقد عطش ، فقال لصاحب الشّراب : ناولني. فناوله قدحا فيه ماء وثلج ، فأخذه ونظر إليه هنيّة ثم ردّه ولم يشرب ، فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وهو فيما هو فيه من الهول (٣).
قال صالح : كنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا في تلك الأيّام ، فلم أقدر. وأخبرني رجل حضره أنّه تفقّده في هذه الأيام الثّلاثة وهم يناظرونه ، فما لحن في كلمة (٤).
قال : وما ظننت أنّ أحدا يكون في مثل شجاعته وشدّة قلبه (٥).
وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : ذهب عقلي مرارا ، فكان إذا رفع عنّي الضّرب رجعت إلى نفسي. وإذا استرخيت وسقطت رفع الضّرب. أصابني ذلك مرارا ، ورأيته ، يعني المعتصم ، قاعدا في الشّمس بغير مظلّة ، فسمعته وقد أفقت يقول لابن أبي دؤاد : لقد ارتكبت في أمر هذا الرجل.
فقال : يا أمير المؤمنين إنّه والله كافر مشرك ، قد أشرك من غير وجه. فلا يزال به حتّى يصرفه عمّا يريد. وقد كان أراد تخليتي بغير ضرب ، فلم يدعه ولا إسحاق بن إبراهيم ، وعزم حينئذ على ضربي.
قال حنبل : وبلغني أنّ المعتصم قال لابن أبي دؤاد بعد ما ضرب أبو
__________________
(١) إلى هنا في الحلية ٩ / ٢٠٣.
(٢) في الحلية ٩ / ٢٠٣ : «في موضع مسغبة» ، وفي سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٥٢ «موضع تفئة» ، والمثبت هنا يتفق مع : مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ٤٠٧.
(٣) الحلية ٩ / ٢٠٣.
(٤) الحلية ٩ / ٢٠٣.
(٥) الحلية ٩ / ٢٠٣.