والموجب هو الله تعالى ؛ لأنه المرجح ، ومعنى قول الرسول أن النظر في المعجزة واجب هو أنه مرجح على تركه لترجيح الله تعالى إياه ، فالرسول مخبر عن الترجيح ، والمعجزة دليل صدقة في إخباره ، والنظر سبب لمعرفته الصدق ، والعقل آلة للنظر ولفهم معنى الخبر ، والطبع مستحثّ على الحذر من الضرر بعد فهم المحذور بالعقل ، وبهذا تبين أن مدخل العقل من جهة أنه آلة للفهم ، لا أنه موجب.
(وثمرة هذا الخلاف) تظهر (في) حكم (من لم تبلغه دعوة رسول فلم يؤمن حتى مات) وهو على ذلك ، فحكمه أنه (يخلد في النار على قول المعتزلة وعلى) قول (الفريق الأول من الحنفية) أبي منصور وأتباعه وعامة مشايخ سمرقند ، وهو وجوب الإيمان بالله عقلا قبل البعثة (دون الفريق الثاني) أي : أئمة بخارى (منهم) أي : من الحنفية (و) دون (الأشاعرة) وهو أنه لا يجب إيمان قبل البعثة ، فمن مات ولم تبلغه دعوة رسول ليس من أهل النار (١).
(وإذا لم يكن) من لم تبلغه الدعوة (مخاطبا بالإسلام عند هؤلاء فأسلم) أي : أتى بما يمكنه الإتيان به من مسمى الإسلام بأن صدّق بالوحدانية وما يجب لله سبحانه ، وهذا بعض مسمى الإسلام (هل يصح إسلامه) بمعنى أنه يثاب عليه في الآخرة (عند) الفريقين من (الحنفية؟)
(نعم) يصح إسلامه بالمعنى المذكور ، (كإسلام الصبي الذي يعقل معنى الإسلام والتكليف) فإن إسلامه صحيح عند الحنفية ، فيترتب عليه عندهم التوارث بينه وبين قريبه المسلم وسائر أحكام الإسلام في الدنيا والآخرة ، (وذكر بعض مشايخ الحنفية أنه سمع أبا الخطاب (٢) من مشايخ الشافعية يقول : لا يصح إيمان من لم تبلغه دعوة ، كإيمان الصبي ،) فإنه لا يصح (عندهم) على المرجح من مذهبهم فيه.
وتحقيقه أن إسلام الصبي المميز عندهم إنما يكون بالتبعية لأصله أو لسابيه أو لدار الإسلام ، وأما إسلامه بنفسه استقلالا ففيه عندهم أوجه ثلاثة :
__________________
(١) هذا هو الرأي السائد داخل مذهب الأشاعرة ، بناء على أن شكر المنعم واجب شرعا وليس عقلا ، ويبدو أنه المذهب الأقرب توافقا مع كثير من النصوص.
(٢) أبو الخطاب : الطبري البخاري ؛ وهو أحمد بن أحمد بن محمد. كان أستاذا في علم الخلاف والنظر. ولد سنة ٤٩٧ ه وذكره الذهبي ولم يؤرّخ وفاته. (طبقات الشافعية ، للأسنوي : ٢ / ٦٨).