قصاصا ، أو يقتص) بأن يخلق للجماء (١) قرنين تقتص بهما حقيقة ، (فإن ذلك) أي : فنقول في الجواب أن ذلك بتقدير ثبوته أمر جائز (لا يمنعه العقل عندنا ، لكن لا نوجبه) أي : لا نقول بوجوب وقوعه (منه تعالى) كما تقول المعتزلة ، (وإن لم يثبت) قسيم لقوله : «إن ثبت» أي : وإن لم يثبت ما ورد من الاقتصاص (كفينا أمره) فلم نحتج إلى الجواب عنه.
فإن قيل : كيف تردد المصنف في ثبوته مع أنه وارد في مسند أحمد بإسناد رواته رواة الصحيح كما قال المنذري ، ولفظه : «يقتص للخلق بعضهم من بعض ، حتى للجماء من القرناء ، وحتى للذرة من الذرة» (٢) ، وهو في صحيح مسلم بلفظ : «لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» ، والجلحاء : بجيم فلام فحاء مهملة : هي التي لا قرن لها (٣).
قلنا : ورود الحديث المشار إليه في صحيح مسلم والمسند لا يخرجه عن كونه خبر آحاد غير مفيد للقطع ، والقطع هو المعتبر في العقائد. إذا تقرر ذلك فقول المصنف : «إن ثبت» لعله يعني به الثبوت المعتبر في العقائد ، أما إن أراد به الثبوت الأعم من الظني والقطعي فلا وجه للترديد.
(واعلم أن الحنفية لما استحالوا عليه تعالى تكليف ما لا يطاق) كما مر تقريره (فهم) أي : الحنفية (لتعذيب المحسن الذي استغرق عمره في الطاعة) حال كونه (مخالفا) بذلك (لهوى نفسه في رضا مولاه) أي : لأجل رضاه وبسببه (أمنع ،) أفعل تفضيل هو خبر يتعلق به الجار والمجرور السابق ، أعني قوله : «لتعذيب» ، والمبتدأ قوله : «هم» ، أي : فالحنفية أشد منعا لتعذيب المحسن المذكور ، أي : أنه عندهم أولى بالمنع من تكليف ما لا يطاق ، وهم في ذلك مخالفون للأشاعرة القائلين بأن له تعالى تعذيب الطائع وإثابة العاصي ، ولا يكون ظلما لاستحالة الظلم منه تعالى على ما مر تقريره ، قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (سورة الأنبياء : ٢٣).
ثم منع الحنفية ذلك ليس بمعنى أنه يجب عليه تعالى تركه كما تقول
__________________
(١) الجماء : التي لا شعر لها ، (انظر : لسان العرب ، ٢ / ٣١٩)
(٢) الحديث في المسند عن أبي هريرة ، انظر : ٢ / ٣٦٣.
(٣) الجلحاء من الجلحة وهو انحسار الشعر ، ومنحسره عن جانبي الوجه ، فالجلحاء من الشاء والبقر بمنزلة الجماء التي لا قرن لها ، (لسان العرب ، ٢ / ٣١٩).