أشرف مناصب الخلق مقتضية لغاية الإجلال اللائق بالمخلوق ، فيعتبر لها انتفاء ما ينافي ذلك.
(و) شرطها أيضا (العصمة من الكفر) قبل النبوة وبعدها بالإجماع ، (وأما) العصمة (من غيره مما سنذكره) من المعاصي : (فمن) أي : فهو من (موجبات النبوة) بفتح الجيم ، أي : الأمور التي يقتضيها منصب النبوة (متأخر عنها) كما هو شأن الموجب ، فلا يتأتى اشتراطه فيها ، وهذا ما عليه الجمهور ، أما على القول بعصمتهم من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها فلا يمتنع الاشتراط (١).
(وقولهم) في الشروط : (أكمل أهل زمانه ، إن حمل على ظاهره) من العموم لجميع أهل الزمان (استلزم) لذلك (عدم جواز) إرسال (نبيّين في عصر واحد ، وهو منتف بنحو يوشع وموسى وهارون) والتمثيل بموسى وهارون أظهر لثبوت إرسالهما معا بنص الكتاب في آيات متعددة ، كقوله : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣)) (سورة طه : ٤٣) (فَاذْهَبا بِآياتِنا) (سورة الشعراء : ١٥) (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) (سورة طه : ٤٧) ونحوها (فيجب) في تأويل اشتراطه (أن المراد) كونه أكمل أهل زمانه (ممن ليس نبيا) وحاصله تخصيص العموم.
(والعصمة) المشترطة معناها : (تخصيص القدرة بالطاعة ، فلا يخلق له) أي : لمن وصف بها (قدرة المعصية ،) وقد لخص المصنف في «التحرير» (٢) هذا التعريف ، وذكر معه تعريفا آخر فقال : وهي ـ أي العصمة ـ عدم قدرة المعصية ، أو خلق مانع منها غير ملجئ ، أي : بل يبقى معه الاختيار ، والتعريف الثاني يلائم قول الإمام أبي منصور الماتريدي : العصمة لا تزيل المحنة ، أي : الابتلاء المقتضي لبقاء الاختيار. قال «صاحب البداية» : ومعناه ـ يعني قول أبي منصور ـ أنها لا تجبره على الطاعة ولا تعجزه عن المعصية ، بل هي لطف من الله تعالى يحمله على فعل الخير ويزجره عن فعل الشر ، مع
__________________
(١) العصمة من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها رأي جمهور المسلمين ، فيما قال الحشوية بجواز الإقدام على الكبائر ، وقال المعتزلة : لا يجوز منهم تعمد الكبيرة البتة وأما تعمد الصغيرة فهو جائز بشرط ألا تكون منفرة ، وقال الشيعة : لا يجوز منهم الكبيرة ولا الصغيرة لا بالعمد ولا بالتأويل ، ولا بالسهو والنسيان. وقال الرازي : إن الأنبياء معصومون في زمن النبوة عن الصغائر والكبائر بالعمد ، أما على سبيل السهو فجائز. انظر : عصمة الأنبياء للرازي ، ص ٥.
(٢) انظر : التحرير في أصول الفقه ، ص ٣٠٣.