الشريفة الفراغ (عن هوى النفس) أي : ميلها إلى مشتهياتها (و) عن (حظوظها) المنعوت ذلك الفراغ بأنه (مما لا يقع إلا لمن استولت عليه معرفة الله تعالى حتى زهد في نفسه ، حتى إنه) صلىاللهعليهوسلم (ما انتصر لنفسه قط ، إلا أن تنتهك حرم الله) تعالى ، جمع «حرمة» أي : الأمور التي أثبت لها الاحترام ، (وما خيّر بين شيئين إلا اختار أيسرهما) أي : على من صدر منه التخيير ، وإن كان الأحظ له صلىاللهعليهوسلم الشيء الآخر ، فقد ساق صاحب «الشفاء» بإسناده من الموطأ رواية يحي بن يحي إلى عائشة رضي الله عنها قالت : «ما خيّر رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول الله صلىاللهعليهوسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها» (١) ، وهو في الصحيحين وسنن أبي داود بمعناه وغالب ألفاظه.
وفي موضع آخر من «الشفاء» قالت عائشة رضي الله عنها : «ما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله تعالى» (٢) وهو عند مسلم وأبي داود بلفظ : «ما ضرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا قط بيده ، ولا خادما ، ولا امرأة ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه ، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله» (٣) وهذان الحديثان دالان على زهده صلىاللهعليهوسلم في كل ما فيه حظ للنفس.
(ولعمري) وأصله : القسم بحياة المتكلم (أن من رآه) حال كون ذلك الرائي (طالبا للحق لم يحتج عند مشاهدة وجهه الكريم إلى غيره ، لظهور شهادة طلعته المباركة بصدق لهجته) أي : كلامه ؛ لأن المتكلم يلهج بالكلام أي يصدر منه متكررا (وصفاء سريرته ، كما قال المرتاد للحق : فما هو إلا أن رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب) والمرتاد للحق هو الطالب له ، والمراد به هنا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، فقد روى الترمذي وابن قانع وغيرهما بأسانيدهم عنه أنه قال : «لمّا قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة جئت لأنظر إليه ، فلما استنبت
__________________
(١) الشفاء للقاضي عياض ، ١ / ١٣٧ ، والحديث في الموطأ برقم ٩٠٣ ، وفي صحيح البخاري برقم ٢٣٠ ، وصحيح مسلم برقم ١٨١٣.
(٢) الشفاء للقاضي عياض ، ١ / ١٤٠.
(٣) أخرجه مسلم برقم ٢٣٢٨ ، وأبو داود برقم ٤٧٨٦ ، والرواية عندهم : «ما ضرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا قط بيده ولا خادما ولا امرأة» دون ذكر بقية الحديث.