التشريف والإكرام) والمعنى : أنه وضع في الأرض للتقبيل والاستلام ، تشريفا له كما شرفت اليمين وأكرمت بوضعها للتقبيل دون اليسار في العادة ، فاستعير لفظ اليمين للحجر لذلك ، أو لأن من قبّله أو استلمه فقد فعل ما يقتضي الإقبال عليه والرضا عنه ، وهما لازمان عادة لتقبيل اليمين.
والحاصل أن لفظ اليمين استعير للحجر للمعنيين أو لأحدهما ، ثم أضيف إضافة تشريف وإكرام.
وهذا الحديث أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلّام (١) بلفظه ، وروى ابن ماجة (٢) نحوا من معناه من حديث أبي هريرة مرفوعا ، ولفظ : «من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن».
وهذا التأويل لهذه الألفاظ (لما ذكرنا من صرف فهم العامة عن الجسمية ، وهو ممكن أن يراد ولا يجزم بإرادته خصوصا ، على قول أصحابنا) يعني الماتريدية (أنها) أي : الألفاظ المذكورة (من المتشابهات ، وحكم المتشابه انقطاع رجاء معرفة المراد منه في هذه الدار) دار التكليف (وإلا) أي : وإن لا يكن ذلك بأن كان معرفته في هذه الدار موجودة (٣) مرجوة (لكان قد علم) لمن حصلت له من العباد ، وذلك ينافي القول بأن الوقف في الآية على قوله : (إِلَّا اللهُ) (سورة آل عمران : ٧) وهو قول الجمهور.
واعلم أن كلام إمام الحرمين في «الإرشاد» (٤) يميل إلى طريق التأويل ، ولكنه في «الرسالة النظامية» (٥) اختار طريق التفويض ، حيث قال : «والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا اتّباع سلف الأمة ، فإنهم درجوا على ترك التعرّض لمعانيها» وكأنه رجع إلى اختيار التفويض لتأخر الرسالة.
__________________
(١) أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله ، الإمام المجتهد الحافظ ، كان أبوه مملوكا روميّا لرجل هروي ، ولد أبو عبيد سنة ١٥٧ ه ، سمع من كثيرين ؛ من إسماعيل بن جعفر وشريك بن عبد الله وهشيما وسفيان بن عيينة وغيرهم. له تصانيف كثيرة ، سارت بها الركبان ، وحدث عنه كثيرون. توفي بمكة سنة ٢٢٤ ه. [سير أعلام النبلاء ، ١٥ / ٤٩٢].
(٣) ليست في (ط).
(٢) أخرجه ابن ماجه برقم ٢٩٥٧ ، في سنده حميد بن أبي سوية ، قال فيه الذهبي : مجهول ، وقال فيه ابن عدي في الكامل ٢ / ٢٧٤ : أحاديثه غير محفوظة ، والحديث انفرد به ابن ماجه.
(٤) انظر : الإرشاد ، ص ١٥٥ ـ ١٦٤.
(٥) انظر : الرسالة النظامية ، ص ٣٢.