إذا تمهد هذا فنقول : لا يخفى أن التكليف بالتصديق بوجود الصانع وبتوحيده يشمل الكافة من العامة والخاصة ، وأن النبي صلىاللهعليهوسلم مأمور بالدعوة للناس أجمعين ، وبالمحاجة مع المشركين الذين عامتهم عن إدراك الأدلة القطعية البرهانية قاصرون ، ولا يجدي معهم إلا الأدلة الخطابية المبنية على الأمور العادية والمقبولة التي ألفوها وحسبوا أنها قطعية ، وأن القرآن العظيم مشتمل على الأدلة العقلية القطعية البرهانية التي لا يعقلها إلا العالمون ، وقليل ما هم بطريق الإشارة على ما بينه الإمام الرازي في عدة آيات من القرآن (١) ، وعلى الأدلة الخطابية النافعة مع العامة لوصول عقولهم إلى إدراكها بطريق العبارة ، تكميلا للحجة البرهانية (٢) على الخاصة والعامة ، على ما يشير بذلك قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (سورة الأنعام : ٥٩).
وقد اشتمل عليهما عبارة وإشارة قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (سورة الأنبياء : ٢٢) أما الدليل الخطابي المدلول عليه بطريقة العبارة فهو لزوم فساد السموات والأرض بخروجهما عن النظام المحسوس عند تعدد الآلهة ، ولا يخفى أن لزوم فسادهما إنما يكون على تقدير لزوم الاختلاف ، ومن البين أن الاختلاف ليس بلازم قطعا ؛ لإمكان الاتفاق ، فلزوم الفساد لزوم عادي (٣) ، وقد أشار إليه الإمام الرازي حيث قال : أجرى الله تعالى الممكن مجرى الواقع بناء على الظاهر ، ولا يخفى على ذوي العقول السليمة أن ما لا يكون في نفس الأمر لازما وقطعيا لا يصير بجعل الجاعل ، وتسميته إياه برهانا دليلا قطعيا زعما أن تسميته قطعيا وبرهانا صلابة في الدين ونصرة للاسلام والمسلمين ، هيهات هيهات ، فإن ذلك يكون (٤) مدرجة لطعن الطاعنين. ونصرة الدين لا تحتاج إلى ادعاء ما ليس بقطعيّ قطعيا ؛ لاشتمال القرآن على الأدلة القطعية العقلية التي لا يعقلها إلا العالمون ، بطريق الإشارة
__________________
(١) منها : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)) [آل عمران ، ١٩٠] ، وقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ، ٢٢].
(٢) ليست في (م)
(٣) اللزوم : عملية عقلية يدرك بها الناظر الباحث واقع اقتران بين قضيتين ، فيصدر بالاستناد إليها حكما شرطيا ، هو إدراك مباشر. واللزوم قد يكون له مقتضى عقلي من الواقع أو البديهيات ، وإما أن يكون اتفاقيا في الواقع وهو اللزوم العادي.
(٤) ليست في (ط).