واعلم أن «كلامه النفسي» (١) لا يوصف بأنه متبعض ولا متجزئ ، ولا يوصف بأنه عبري ولا سوري ولا عربي ، إنما العبري والسوري والعربي هو اللفظ الدال عليه.
ثم المخالف في صفة الكلام فرق :
منهم مبتدعة الحنابلة ، قالوا : كلامه تعالى حروف وأصوات تقوم بذاته وهو قديم ، وبالغوا حتى قال بعضهم جهلا : الجلد والغلاف قديمان فضلا عن المصحف (٢) ، وهذا قول باطل بالضرورة.
ومنهم الكرامية ، فإنهم وافقوا الحنابلة في أن كلامه تعالى حروف وأصوات ؛ ((٣) ولكنهم سموا ذلك قولا له (٣)) ، وسلموا أنه حادث ، وقالوا : قائم بذاته ، لتجويزهم قيام الحوادث به ، تعالى عما يقولون ، ((٤) وزعموا أن كلامه هو قدرته على التكلم وهم يثبتون قدم القدرة (٤)).
ومنهم المعتزلة ، قالوا : كلامه تعالى أصوات وحروف يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو الرسول ، وهو حادث عندهم خلافا للحنابلة.
وهذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره نحن بل نقول به ونسميه كلاما لفظيا ، ولكنا نثبت أمرا وراء ذلك وهو المعنى القائم بالنفس ، ونقول : هو الكلام حقيقة ، فهو قديم قائم بذاته ، وهو غير العبارات كما قدمناه ، إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام ، ولا يختلف ذلك المعنى النفسي ، وغير العلم إذ قد يخبر الرجل بما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه.
واعلم أن قولنا : «العبارات تختلف باختلاف الأزمنة ..» يؤخذ منه الجواب عن سؤال مشهور وهو : إنه قد ورد الإخبار في كلام الله تعالى بلفظ المضيّ كثيرا نحو : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (سورة نوح : ١) ، (وَقالَ مُوسى) (سورة الأعراف : ١٠٤) ، (فَعَصى فِرْعَوْنُ) (سورة المزمل : ١٦) ، والإخبار بلفظ المضي عما لم يوجد يعدّ كذبا ، والكذب محال عليه تعالى.
__________________
(١) الكلام النفسي : هو الصفة القائمة بالنفس والتي يعبر عنها بالألفاظ ، وهي غير حقيقة العلم وغير الإرادة ، وإنما صفة مهيأة لأن يخاطب بها الآخرون على وجه الأمر أو النهي أو الإخبار ، تدل عليه الألفاظ ، وهي صفة قديمة قائمة بذاته تعالى.
(٢) انظر : الإرشاد ، للجويني ، ص ١٢٨.
(٣) سقط من (م).
(٤) سقط من (م).