يبيّن لهم منافع الأشياء ومضارّها وخواصّها وأحكامها ، وأنّ بعضها حلال ، وبعضها حرام ، وبعضها مباح ، وبعضها مندوب ، وبعضها مكروه. ومن تلك الأسباب ، أنّه من المعلوم أنّ الغاية التي خلق الإنسان ، الذي هو أشرف الكائنات وأفضل البريّات لأجلها ، وأفضل الأعمال التي هو يكتسبها : معرفة الله تعالى وصفات جماله وجلاله ، ومعرفة حقائق الأشياء التي هي صنعه وآلاؤه تعالى ، ثمّ امتثال طاعته واجتناب معصيته بالتخلّق بالأخلاق الزكيّة ، والاتّصاف بالأوصاف المرضيّة ، والتنزّه عن الصفات الدنيّة ، والتزيّن بالأفعال الجميلة ، والتورّع عن الأعمال الرذيلة. ومن المعلوم أيضا أنّ هذه المعرفة وهذا العلم وإن كان عقليّا صرفا ، بمعنى أنّ العقل السليم يمكنه أن يستقلّ في تحصيله ، إلّا أنّ التحصيل يتوقّف على التنبّه لذلك. وأكثر العقول لكونها منهمكة في الشهوات الحسّيّة ، منغمرة في اللذّات والشوائب الجسمانيّة ، قد توسّخ جواهر مراياها بأوساخ تلك العادات الخبيثة ، وران عليها ملكاتها الخسيسة ، فهي كأنّها قد رقدت في عادتها كأنّها سكارى ، وتوغّلت في حالتها كأنّها حيارى. والنائم وإن كان قد يتنبّه بنفسه ، لكنّ النيام الغرقى في غمرات المنام لو تركوا ومنامهم ، لاستمرّوا في سكوتهم يعمهون. والنوم الغرق لو لم يوقظ أهله لتمادوا في نومهم إلى يوم يبعثون ، فلو لم يكن رجل أيقظه الله تعالى بنوره ، يوقظهم من نوم غفلتهم ، وينهضهم من صرعة جهلهم ، لم يتيقّظوا ولم يخطر ببالهم أنّ لهم صانعا يجب عليهم أن يعرفوه ، ثمّ يسمعوا له ويطيعوه ؛ ولم يختلج في قلوبهم أنّ هاهنا فضيلة وكمالا غير ما هم به مولعون ، وهم فيه مستترون. فذهب أكثر الناس ضياعا ، ومضى عامّتهم همجا رعاعا. ثمّ إنّهم بعد ما اوقظوا أيضا أو تيقّظوا ، ليس أكثرهم من يبصر شيئا أو يهتدى سبيلا ، لما غشى بصائرهم من رمد الغفلة ، وأحاط بقلوبهم من رين هواجس العادة ، فلا يبصرون طريقا وسبيلا ولا يعقلون حجّة ودليلا ، بل لا غنى لهم عن معلّم بصير خبير يعلّمهم كمال التدبير ويهديهم إلى سواء السبيل ، عسى أن يكون فرقة منهم تهتدي إلى قليل أو كثير ، وهذا ـ أيضا ـ أحد أسباب احتياج الإنسان إلى النبيّ عليهالسلام وإن كانت أسباب الاحتياج إليه عليهالسلام لا تحصى ، وما تفطّن له العلماء من ذلك