ومنها أنّ بدن الإنسان ومزاجه مركّب من طبائع متضادّة وكيفيّات متعاندة ، وهو محتاج في معاشه وصلاح حاله إلى أغذية وأشربة مختلفة ، إن سالمت بعضا عاندت آخر ؛ وهو ـ مع تلك المعاندات ـ من داخل بدنه واقع في معرض الآفات ومورد البليّات من خارجه ، إن انتهز بعضها فرصة ، غلب صاحبه فأفسده وأدّى إلى هلاك بدنه وجسده من قريب ، بل ربما أدّى بتوسّطه إلى هلاك روحه ونفسه أيضا ، فيحتاج ضرورة إلى ضرب من التدبير في غذائه وشرابه وسائر وارداته ليسلم من الآفات ويبقى به مدّة يمكنه فيها الترقّي إلى الكمال المقدّر له. ومعلوم أنّ معرفة مضارّها ومنافعها ومسالمها ومنازعها لا يمكن بالتجربة ، فإنّ دواء واحدا أو غذاء وشرابا يختلف أثره في الأمزجة المختلفة والأمكنة المختلفة والأزمنة المختلفة ، بل في شخص واحد بحسب أحوال وأوقات مختلفة لا تكاد تنضبط برابط ، فضلا عن جميع الأغذية والأشربة والأدوية بكثرتها التي لا يحصيها ولا يجمعها الارتباط ؛ ولو كان الطريق إلى معرفتها هو التجربة ، لكان في مدّة تجربة شيء واحد هلاك المجرّبين من الناس كلّهم أو جلّهم. وعلى تقدير فرض حصول معرفتها بالتجربة ، لكان ذلك في أقلّ قليل منها ، لا في أكثرها ولا في كلّها. وعلى تقدير تسليم حصول ذلك بالنسبة إلى أكثرها أو كلّها ولو في أزمنة متطاولة وأعصار متمادية ، فلا يخفى أنّ التجربة إنّما تفيد معرفة طبائع الأشياء التي للتجربة دخل في معرفتها ، وللعقل سبيل إلى العلم بها. والحال أنّ في الوجود والطبيعة وفيما يحتاج إليه الإنسان في نظام معيشته وصلاح حاله وبقاء نوعه وشخصه أشياء مثل أغذية وأشربة ومساكن وملابس وأفعال ، لتلك الأشياء خواصّ وأحكام ، بعضها مقرّبة للإنسان إلى رحمة الله تعالى وإلى ساحة عزّه وكبريائه ، وبعضها مبعّدة عن ذلك ، وبعضها ممّا ينفع جسده أو روحه أو كليهما ، وبعضها يضرّه كذلك ؛ وأنّ تلك الخواصّ والأحكام ممّا ليس للتجربة إليها سبيل ، ولا من العقل عليها دليل ، بل لا يعلمها إلّا علّام الغيوب ، وإلّا من هو مبعوث من عنده تعالى. وحيث كان الأمر كذلك ، فاحتاج الإنسان في نظام معيشته وبقاء نوعه وشخصه وصلاح حال روحه وجسده ، إلى رئيس أديب يؤدّبهم ، ومعلّم يعلّمهم ، ومبيّن