ـ مثلا ـ كيف ينبغي أن يبنى ، فإنّه لا يصدر عن هذا الاعتقاد وحده فعل بيت مخصوص صدورا أوّليّا ، فإنّ الأفعال تتناول أمورا جزئيّة ، وتصدر عن آراء جزئيّة ، وذلك لأنّ الكلّ ـ من حيث هو كلّيّ ـ ليس يختصّ بهذا دون ذلك ، فيكون للإنسان قوّة تختصّ بالآراء الكلّيّة ، وقوّة أخرى تختصّ بالرويّة في الامور الجزئيّة فيما ينبغي أن يفعل ويترك ، وينفع ويضرّ ، وفيما هو جميل وقبيح ، وخير وشر ، ويكون ذلك بضرب من القياس والتأمّل صحيح أو سقيم ، غايته أنّه يوقع رأيا في أمر جزئيّ مستقبل من الأمور الممكنة ، حيث إنّ الواجبات والممتنعات لا يروّي فيها لتوجد أو تعدم ، وما مضى أيضا لا يروّي في إيجاده على أنّه ماض.
ثمّ إنّه إذا حكمت هذه القوّة ، يتبع حكمها حركة القوّة الإجماعيّة إلى تحريك البدن ، كما كانت تتبع أحكام قوى أخرى في الحيوانات ، وتكون هذه القوّة مستمدّة من القوّة التي على الكلّيّات ، فمن هناك تأخذ المقدّمات الكبرى فيما تروّى وينتج في الجزئيّات.
فالقوّة الاولى للنفس الإنسانيّة التي تختصّ بالآراء الكلّيّة قوّة تنسب إلى النظر ، فيقال : عقل نظريّ. والقوّة الثانيّة التي لها ـ وتختصّ بالآراء الجزئيّة ـ قوّة تنسب إلى العمل ، فيقال : عقل عمليّ. وتلك للصدق والكذب ، وهذه للخير والشرّ ، وتلك للواجب والممكن والممتنع ، وهذه للقبيح والجميل والمباح. ومبادئ تلك من المقدّمات الأوّليّة ، ومبادئ هذه من المشهورات والمقبولات والمظنونات والتجربيّات الواهية التي تكون من المظنونات غير التجربيّات الوثيقة. ولكلّ واحدة من هاتين القوّتين رأي وظنّ ، والرأي هو الاعتقاد المجزوم به ، والظنّ هو الاعتقاد المميل إليه الراجح مع تجويز الطرف الآخر المرجوح. وليس من ظنّ فقد اعتقد ، كما ليس من أحسّ فقد عقل ، أو من تخيّل فقد ظنّ أو اعتقد أو رأى. فيكون في الإنسان حاكم حسّيّ ، وحاكم من باب التخيّل وهميّ ، وحاكم نظريّ ، وحاكم عمليّ ، ويكون المبادئ الباعثة لقوّته الإجماعيّة على تحريك الأعضاء وهميّة خياليّة ، وعقليّة عمليّة ، وشهوة وغضبا ، ويكون للحيوانات الأخرى بعض من هذه لا كلّها ، كما سيأتي بيانه.