فمن قال : إنّ النّفس واحدة فعّالة بذاتها ، احتجّ بما سيحتجّ به أصحاب المذهب الأخير (١) ممّا نذكره. ثمّ قال : فإذا كانت واحدة غير جسم ، استحالت (٢) أن تنقسم في الآلات وتتكثّر ، فإنّها حينئذ تتكثّر (٣) صورة مادّيّة ، وقد ثبت عندهم أنّها جوهر مفارق بقياسات لا حاجة (٤) إلى تعدادها هنا. قالوا : فهي بنفسها تفعل ما تفعل بآلات مختلفة.
والذين قالوا من هؤلاء : إنّ النّفس علّامة بذاتها ، احتجّوا وقالوا : لأنّها إن كانت جاهلة عادمة للمعلوم (٥) ، فإمّا أن يكون ذلك لها لجوهرها أو يكون عارضا لها ، فإن كان لجوهرها استحال أن تعلم البتّة ، وإن كان عارضا لها ، فالعارض يعرض على الأمر الموجود للشيء ، فيكون موجودا للنّفس أن تعلم الأشياء ، لكن عرض لها إن جهلت بسبب ، فيكون السّبب إنّما يتسبّب للجهل لا للعلم. فإذا رفعنا الأسباب العارضة ، بقي لها الأمر الذي في ذاتها. ثمّ إذا كان الأمر الذي لها في ذاتها هو أن تعلم ، فكيف يجوز أن يعرض لها بسبب من الأسباب أن تصير لا تعلم وهي بسيطة روحانيّة لا تنفعل ، بل يجوز أن يكون عندها العلم وتكون معرضة عنه مشغولة إذا نبّهت علمت ، وكان معنى التنبيه ردّها إلى ذاتها وإلى حال طبيعتها ، فصادفت (٦) نفسها عالمة بكلّ شيء.
وأمّا أصحاب الذكر (٧) ، فإنّهم احتجّوا وقالوا : إنّه لو لم تكن النّفس علمت وقتا ما تجهله الآن وتطلبه ، لكان (٨) إذا ظفرت به لم تعلم أنّه المطلوب ، كطالب العبد الآبق ، وقد فرغنا (٩) من ذكر هذا في موضع آخر وعن نقضه.
والذين كثّروا النّفس ، فقد احتجّوا وقالوا : كيف يمكننا أن نقول : إنّ الأنفس كلّها نفس واحدة ، ونحن نجد النبات ولها (١٠) النّفس الشهوانيّة ، أعني الّتي ذكرناها في هذا القبيل (١١) وليس لها الفصل المميّز ، فتكون لا محالة هذه النّفس شيئا منفردا بذاته ، دون تلك (١٢) النّفس الحسّاسة المذكورة ، ثمّ نجد الحيوان ، ولها (١٣) هذه النّفس الحسّاسة الغضبيّة ، ولا
__________________
(١) في المصدر : المذهب الآخر ...
(٢) استحال ...
(٣) تصير ...
(٤) لا حاجة لنا ...
(٥) عادمة للعلوم ...
(٦) فتصادف ...
(٧) أصحاب التذكّر ...
(٨) لكانت ...
(٩) فرغنا عن ...
(١٠) وله ...
(١١) في هذا الفصل وليس له النّفس المدركة الحاسّة ، فتكون لا محالة النّفس هذه شيئا ...
(١٢) دون تلك النفس ، ثمّ ...
(١٣) وله.