أكلت وأنا شربت وأنا دخلت وأنا خرجت ، إلى غير ذلك من الأفاعيل والحركات والسّكنات التي هي ـ لا محالة ـ خاصّة بالجسم ، مختصّة بالمادّة ، وأنت تنسبها إلى ذاتك وتدّعيها لنفسك. فهذه إمّا مجازات ـ كما يلوح من كلام بعضهم كصاحب المطارحات ـ بناء على أنّ هذه أفعال بدنيّة ، وأنت تنسبها إلى نفسك لعلاقة المصاحبة والمحبوبيّة ، مثلا كما أنّ زيدا مثلا قد ينسب فعل عمرو إذا أحبّه إلى نفسه ، فهذا باطل بالضّرورة ، لأنّا نعلم قطعا أنّ هذه الإسنادات ليست بمجازات ، بل حقائق ، فإنّها من قبيل إنّ الجسم إذا جاء ، جاء معه لونه المصاحب له حقيقة لكن بالعرض. ومنه يظهر وحدة النّفس ، حيث إنّ الفاعل في الكلّ واحد. بل يظهر أيضا كما ادّعاه بعضهم تجرّدها عن المادّة بالذات ، وكونها مع ذلك موسّخة بأوساخ المادّة ومتدرّنة بخبائث الطبيعة من العادات الدنيّة والملكات الخسيسة والصّفات الرذيلة ، فصارت من العالم الوسط الذي بين عالم المادّة وعالم المجرّدات المحضة ، حتّى تتطهّر ـ باتّباع الأحكام الدينيّة وسلوك الشرائع الإلهيّة وإطاعة أنبياء الله تعالى وخلفائه ـ عن هذه الأوساخ الخسيسة ، وتنفض عن ذيل قدسها هذه الآثار الطبيعية ، فتجرّد بالكلية عن هذا العالم الدنيويّ الخسيس ، وتتدرّج إلى العالم الأعلى الشريف ، فتنجو من هذا السّجن وتصير مجرّدة بالفعل. وفّقنا الله تعالى لهذا بمنّه وفضله بحقّ محمّد وآله الطّاهرين.
وكذلك لا سترة في أنّه يصحّ لك أن تقول : أنا اشتهيت وتغذّيت ـ ممّا هو من أفعال النّفس النباتيّة ـ وأنا أحسست وغضبت ـ ممّا هو من أفعال النّفس الحيوانيّة ـ وأنا أدركت وتعقّلت ـ ممّا هو من أفعال النّفس الإنسانيّة ـ فهذه أيضا إمّا مجازات لعلاقة المصاحبة مثلا ، فهو باطل كما مرّ ، فبقي أن تكون حقائق وفيه المطلوب. بل أن تقول : أنا اشتهيت فأحسست فتغذّيت ، وأنا أحسست فاشتهيت ، وأحسست فغضبت ، وأدركت فحرّكت ، إلى غير ذلك من العبارات التي تجعل فيها فعل بعض هذه النفوس الثلاثة سببا لفعل أخرى منها ، وتدّعي أنّ المبدأ للكلّ أنت نفسك وأنت شاعر به ، ولا يخفى أنّ فيه تنبيها واضحا على المطلوب عند ذي فطرة سليمة.