وهذا أيضا في الحقيقة ردّ إلى ذات النّفس؟ وكيف وذلك البعض نفسه ذكر أنّها تردّ ما حكمت به حاسّة إلى ما يحكم به العقل؟ والحال أنّ المراد بالعقل هنا عندهم ليس إلّا قوّة للنّفس.
وأمّا ما ذكره بعد ذلك من الاختلاف بين الأفعال الذّاتيّة غير الآليّة ـ كالأمور المعقولة ـ وبين الأفعال الآليّة ـ كالأمور المحسوسة ـ فمسلّم ، إلّا أنّه ليس فيه عند التّأمّل دليل على أنّ النّفس تدرك المعقولات بذاتها من غير توسّط قوّة في ذلك ، بل ربّما يمكن أن يوجّه ما أسنده إلى أرسطو من المذهب بما وجّهنا به كلام المحقّق الطوسي (ره) ، فتدبّر.
وحيث عرفت صحّة ما اختاره الشيخ من المذهب ، فاعلم أنّ ما ذكره في كيفيّة إفاضة القوى عن النّفس ، حيث قال (١) : «إنّ (٢) هذا الذي ليس بجسم يجوز أن يكون منبع القوى يفيض (٣) عنها بعضها في الآلة ، وبعضها يختصّ بذاته ، وكلّها يؤدّي إليه نوعا من الأداء ، واللواتي تكون في الآلة تجتمع في مبدأ يجمعها في الآلة ذلك المبدأ ، وهو فائض عن الغنيّ عن الآلة».
وحاصله أنّ تلك النّفس التي هي الذّات الواحدة تفيض أوّلا عن المبدأ الفيّاض الذي هو الغنيّ عن الآلة مطلقا ، ثمّ تفيض باقتضاء العناية الأزليّة عن تلك النّفس قوى متخالفة. إلّا أنّ القوى الآليّة منها تفيض عن تلك النّفس في الآلة وهي حالّة فيها ، وأنّ القوى غير الآليّة منها أي الذاتيّة تفيض عنها وتختصّ بذاتها وهي قائمة بها ، وأنّ تلك الذات بالنسبة إلى كلّ تلك القوى منبع ومجمع ومخدوم ولها تسلّط واقتدار على تلك القوى في أن تستعملها في أفعالها ، وأنّ تلك القوى كلّها بالنسبة إلى تلك الذات خوادم ورواضع.
فهذا الذي ذكره ، وإن كان صحيحا على أصوله لكون النّفس مجمع القوى الآليّة والذّاتيّة التي بتوسّطها تصدر عنها تلك الأفعال ، إلّا أنّ الأنسب بقواعد الشرع أن يقال إنّ
__________________
(١) الشفاء الطبيعيّات ٢ / ٢٢٤ ، الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
(٢) في المصدر : لأنّ ...
(٣) فيفيض عنه بعضها.