يغلط فيه ، وتردّه إلى ما حكم به العقل ، كما لا تردّ ما حكمت به حاسّة إلى ما حكمت به حاسّة أخرى ، والحال أنها تردّ حكم الحسّ كثيرا إلى ما حكم به العقل ، وذكر الشاهد عليه الأمثلة التي ذكرتها سابقا ، ثمّ ذكر أنّ النّفس النّاطقة تدرك الأمور المعقولة بغير النّحو الذي تدرك به الأمور المحسوسة ، لأنّها إذا طلبت الأمور المعقولة انبسطت ورجعت إلى ذاتها كأنّها تطلب شيئا هو عندها ، وإذا همّت تحصيل رأي بديع أو فكر في عاقبة أو استخراج علم غامض عويص ، خلت بنفسها وأبعدت جميع المحسوسات عنها ، وكرهت أن يشغلها شيء من الحواسّ ، واجتهدت في تعطيلها ، وانبسطت انبساطا راجعا إلى ذاتها ، وإذا طلبت الأمور المحسوسة خرجت عن ذاتها ، كأنّها تطلب شيئا خارجا عنها ، فتحتاج حينئذ إلى آلة تتوسّل بها إلى مطلوبها ، فإن وجدت الآلة صحيحة استعملها وأدركت الأمر الخارج ، ثمّ حصّلت صورتها عندها في الوهم. وإن لم تجد الآلة ، فإنّها تعدم ذلك المطلوب. مثال ذلك الأكمه لأنّه لا يمكنه أن يتصوّر الألوان ، لأنّه لم يجد آلتها. فالنّفس الإنسانيّة تدرك الأمور البسيطة بغير آلة ، بل بنفسها ، وتدرك الأمور المركّبة المحسوسة بتوسّط الحواس ، وهذا المذهب لأرسطاطاليس ، ويتبيّن منه رأيه في النّفس الناطقة ، فإنّها تدرك المحسوسات والمعقولات معا ، وليس كما يظنّه قوم من أنّ الأشياء المحسوسة إنّما تدركها الحواسّ فقط ، والأشياء المعقولة يدركها العقل فقط ـ انتهى بخلاصته ـ.
وهذا الذي ذكره ذلك البعض من المفسّرين ، يدلّ على عدم صحّة القول باستناد الأفعال الذّاتيّة إلى النّفس الإنسانيّة بتوسّط القوى ، كما هو مذهب الشيخ. بل ينبغي القول ـ على تقديره ـ باستنادها إلى ذات النّفس بذاتها من غير توسّط قوى في ذلك ، فكيف ذلك؟
قلت : هذا الذي ذكره ذلك البعض أوّلا غير مسلّم ، فإنّ المسلّم أنّ النّفس لا تردّ حكم ما حكمت به قوّة بدنيّة آليّة إلى ما حكمت به قوّة أخرى آليّة بدنيّة ، وأمّا أنّها لا تردّ ما حكمت به قوة آليّة إلى ما حكمت به قوّة أخرى غير آليّة بل ذاتيّة ، فليس بمسلّم. كيف