أن تكون تلك النسب أنفسها كافية في صدور تلك الأفعال الذّاتيّة غير الآليّة عن تلك الذّات الواحدة ، من غير أن يكون هناك قوى مختلفة متوسّطة في ذلك؟
قلت : لا كلام في كون النسب المختلفة والاعتبارات والجهات المتغايرة هناك ، إلّا أنّ من يقول بالقوى المتخالفة وبتوسّطها في صدور تلك الأفاعيل المختلفة عن تلك الذّات الواحدة ، كالشّيخ ونظرائه بل الأكثرين منهم ، كأنّ نظره في ذلك أنّ تلك النسب المختلفة بأنفسها لا تصحّ أن تكون منشأ لصدور الأفاعيل المختلفة ، إلّا أن يكون هناك أمر آخر من حال لتلك الذّات الواحدة ، باعتبار يصحّ استناد فعل إليه ، ولا نعني بقوّة النّفس إلّا ذلك الأمر ، حيث إنّهم أطلقوا لفظ القوّة على قوّة النّفس بمعنى الحال التي تكون في الشيء وتكون مبدأ تغيّر في آخر ، كما أشرنا إليه فيما سلف ، وهذا كالقدرة التي أثبتوها لبعض الفواعل ، وقالوا بأنّ الفاعل الذي له أن يفعل وأن لا يفعل بحسب المشيّة وعدم المشيّة ، سواء كان ذاتا واحدة بسيطة فرض له فعل واحد من جهة واحدة ، أو أفعال متخالفة بحسب جهات مختلفة ، أو ذاتا مركّبة فرض لها أفعال متخالفة بحسب جهات فيه ، إنّما يفعله بالقدرة ، فأثبتوا القدرة زائدة على تلك الجهة أو الجهات ، فما وجه ذلك في إثبات القدرة هناك فهو الوجه في إثبات القوّة فيما نحن فيه سواء بسواء.
وحيث تحقّقت ما تلوناه عليك ، ظهر تلك تصحيح ما ذهب إليه الشيخ ، وتبعه الأكثر من القول بأنّ الأفاعيل المختلفة ـ سواء كانت آليّة أو غير آليّة ـ إنّما تصدر عن النّفس التي هي الذّات الواحدة بتوسّط القوى المتخالفة. فما ذهب إليه بعضهم كالمحقّق الطوسي وغيره من أنّ الأفعال الآليّة إنّما تصدر عنها بتوسّط القوى والآلات ، وأنّ الأفعال التي هي غير آليّة إنّما تصدر عنها بذاتها ، لعلّهم أرادوا بالصدور عنها بذاتها ، أنّ ذاتها مصدر لتلك من غير توسّط قوّة بدنيّة وآلة جسمانيّة وحواسّ ومشاعر ، وإلّا فإن أرادوا به أنّ ذاتها بذاتها من غير توسّط قوّة أصلا مصدر لتلك ، ففيه خفاء.
فإن قلت : قد ذكر بعض مفسّري كلام أرسطو أنّه لو كانت النّفس النّاطقة تدرك المحسوسات بقوّة ما ، وتدرك المعقولات بقوّة أخرى ، لما جاز أن تردّ حكم الحسّ فيما