النظريّ والعقل العمليّ فعلان مختلفان ، ومع هذا فمراتب كلّ واحد منهما مختلفة ، وأصولها الكلّيّة أربع ، كما سيجيء بيانه ، والمفروض أنّها أجمع صادرة عن تلك الذّات الواحدة. فلو لم يكن هناك ما به الاختلاف أيضا لم يمكن أن تصدر هي عنها بنفسها ، حيث إنّها واحدة بسيطة ، فيجب أن يكون هناك أيضا ما به الاختلاف ، وما هو إلّا القوى المتخالفة.
فإن قلت : إنّا لا نسلّم أن ليس هناك ما به الاختلاف سوى القوى المتخالفة ، فإنّه يمكن أن يكون هناك جهات واعتبارات بها تصدر عن تلك الذّات الواحدة تلك الأفاعيل المختلفة ، من غير أن يكون هناك قوى متخالفة بتوسّطها تصدر هي عنها. وبعبارة أخرى : إمّا أن تكون هناك جهات واعتبارات مختلفة ، أو لا تكون. فعلى الأوّل ، فتلك الجهات المختلفة أنفسها يمكن أن تكون كافية في صدور تلك الأفاعيل المختلفة عن تلك الذّات الواحدة من غير احتياج إلى القوى المتخالفة ، وإلى توسّطها في ذلك. وعلى الثّاني فلا يمكن أيضا أن تفيض تلك القوى المتخالفة عن تلك الذّات الواحدة ، كما هو مذهب الشيخ في ذلك ، أو أن تفيض عليها من المبدأ الفيّاض كما هو الاحتمال ، وسنشير إلى وجهه ، لأنّ القوى المتخالفة أيضا حيث كانت أمورا مختلفة إنّما تفيض عن تلك الذّات الواحدة أو عليها إذا كانت هناك جهات واعتبارات مختلفة ، بناء على ما هو المقرّر عندهم من أنّ الذات الواحدة البسيطة لا تفيض عنها ولا عليها من جهة واحدة إلّا أمر واحد.
وبعبارة أخرى إنّهم ذكروا أنّ النّفس الإنسانيّة جوهر واحد وله نسبة وقياس إلى جنبتين ، جنبة هي تحته وهي البدن ، وجنبة هي فوقه وهي المبادي العالية ، وله بحسب كلّ جنبة وكلّ نسبة قوّة ، وأنّ له بحسب النسبة إلى ما فوقه القوّة النظريّة ، وبحسب النسبة إلى ما تحته القوّة العمليّة ، وكذلك له بحسب كلّ نسبة من تينك النسبتين ، نسب مختلفة إلى مدركاتها وأفعالها ، وبتلك النسب المختلفة يكون له مراتب القوى النظريّة والعمليّة ، كما سيأتي بيان ذلك مفصّلا فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وحينئذ نقول : إذا كانت هناك تلك النسب المختلفة والجهات المتغايرة ، فلم لا يجوز