الباب الأوّل : في إثبات النفس وإنّيّتها ، وتحديدها من حيث هي نفس ، وأنّها ليست بجسم ولا عرض ، وأنّها غير البدن وأجزائه وأعضائه وآلاته وقواه وأعراضه ، وغير جسميّته ومزاجه.
قد أشرنا لك في مقدّمة الرسالة إشارة إلى إثباتها ، بل إلى أنّها جليّة الإنّيّة ، وإن كانت خفيّة الماهيّة والحقيقة ؛ والآن نزيدك بيانا. فنقول : إنّك قد عملت ممّا بيّنوه في إثبات الصّورة النّوعيّة ، أنّهم لمّا رأوا أنواع الأجسام ـ مع اشتراكها في أصل الجسميّة ـ مختلفة في أشياء كثيرة ، كالأمكنة والأحياز والأوضاع والطّبائع والآثار وخواصّ الأفعال وسائر الأحوال والصّفات ، ويختصّ كلّ نوع منها في ذاته بجملة منها ، بحيث لو فرض مخلّى بذاته ، كان عليها ؛ ولو فرض هناك قسر وأخرجه القاسر منها ، ثمّ خلّي وطبعه ، عاد إليها. فالبرودة والتحتيّة للماء ، والحرارة والفوقيّة للنار ، حكموا بأنّ منشأ ذلك الاختلاف ليس هو الجسميّة المشتركة فيها ، وإلّا لاشتركت كلّ تلك الأنواع في ذلك ، بل هو أمر آخر مبدأ لذلك ، داخل في حقيقة كلّ نوع من تلك الأنواع ؛ فحكموا بأنّ لكلّ نوع من أنواع الأجسام من حيث هو ذلك النوع جزءا آخر مختصّا به ، هو مبدأ عوارضه ولوازمه وصفاته وأحواله ، وبه قوام نوعيّته ، يسمّى ذلك الجزء بالصّورة النوعيّة ، وبذلك أثبتوا الصّورة النوعيّة لأنواع الأجسام كلّها : بسائطها ، كالعناصر والأفلاك ومركّباتها ، ناقصة كانت ، أي التي لا يكون من شأنها حفظ تراكيبها مدّة معتدّا بها ، كالبخار والسّحاب والريح