واستلزام وجوب الشيء حرمة أضداده ، فإنّ العقل أوّلا لا يحكم بوجوب المقدّمة ولا بحرمة الضدّ ، وإنّما يحكم بهما بعد الحكم بوجوب الشيء ولو من جهة حكم الشرع به ، فهو إذن حكم عقلي تابع لحكم الشرع ، والظاهر أنّ ما كان اللزوم فيها بيّنا بالمعنى الأخصّ خارج عن الأدلّة العقليّة ، لاندراجه إذن في المداليل اللفظيّة فيندرج في مداليل الكتاب والسنّة. وعلى هذا فدرج بعضهم مباحث المفاهيم في هذا القسم ليس على ما ينبغي.
ومن الثالث أصالة البراءة والإباحة عند عدم قيام دليل على الوجوب والحرمة فان مقتضاهما جواز الترك والفعل في ظاهر الشرع ، وإن كان الفعل واجبا أو محرّما بحسب الواقع كما سيجيء تفصيل القول فيهما إن شاء الله.
وقد يورد في المقام : أنّ القسم الأوّل ـ وهو ما يستقلّ العقل بإدراكه ـ لا يصحّ عدّه من أدلّة الأحكام ، فإنّ الدليل ما يستدلّ به العقل على الحكم في ما يحتاج إلى الاستدلال ، والعقل في المقام هو الحاكم والمدرك للحكم كما أنّ الشارع حاكم به ، فكما لا يعدّ الشارع دليلا على الحكم بحسب الاصطلاح فكذا العقل.
واجيب عنه : بأنّه ليس المقصود من ذلك كون نفس العقل دليلا ، بل المدّعى كون حكم العقل دليلا على ما حكم به ، فالدليل هو تحسين العقل وتقبيحه وحكمه باستحقاق المدح والذمّ والثواب والعقاب ، ومدلوله من الأحكام الشرعيّة من الوجوب والتحريم وغيرهما ممّا دلّ العقل عليه ، وهذا المدلول هو ما حكم به ودلّ العقل عليه.
وفيه : أنّ حكم العقل وإدراكه ليس دليلا على المحكوم به ، بل الدليل هو الأمر الموصل إلى الإدراك المفروض من المقدّميتن أو الحدّ الأوسط.
فالحقّ في الجواب أن يقال : إنّ الدليل في المقام هو حكم العقل بحسن الفعل أو قبحه عقلا ، فإنّه دالّ على حكم الشارع به أيضا ، نظرا إلى ما دلّ على الملازمة بين حكمي العقل والشرع. نعم قد يجعل متعلّق ادراك العقل نفس حكم الشرع حيث يدرك العقل أوّلا كون ذلك ممّا حكم به الشرع ، وحينئذ لا يصحّ عدّ الحكم