وفيه : أنّ ظاهر الآية عدم استحقاقهم العقاب وأنّه لو عاقبهم لما حسن منه ذلك ، فإنّ ظاهر التعبير المذكور أنّ ذلك ممّا لا ينبغي صدوره منه ، كما إذا قلت : ما كنت لأفعل كذا ، قال الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)(١).
ويمكن دفعه بأنّ غاية ما يسلّم دلالتها عليه أنّ اللائق به تعالى عدم حصول التعذيب منه قبل البعثة ، وهو قد يكون من جهة العفو وأنّ اللائق بلطفه عدم تعذيب العباد قبل تشفيع العقل بالنقل وإن كان الأوّل كافيا في استحقاق العقاب بعد وضوح طريق الصواب ، فاستحقاق العقوبة ثابت للعبد بالنظر الى حاله من جهة عصيانه وإن لم يصحّ التعذيب منه تعالى نظرا إلى ما عليه من اللطف والرحمة ، واللازم للوجوب هو الأوّل ، ولا ينافيه الثاني كما هو الشأن في الصغائر عند ترك الكبائر.
فإن قلت : ليس المقصود استحقاق العبد لمطلق العذاب ، بل لعذابه تعالى ، وهو لا يجامع عدم صلاح صدور التعذيب منه تعالى ، إذ لا يعقل استحقاقه لعذابه تعالى مع عدم حسن التعذيب منه تعالى. وما ذكر من عدم استحقاق العقوبة في ارتكاب الصغائر عند ترك الكبائر ممنوع ، لحصول الاستحقاق هناك نظرا إلى إقدامه على المعصية. غاية الأمر أن يكون ترك الكبيرة كفّارة له ، وأين ذلك من عدم استحقاق العقوبة في الإقدام عليه؟
قلت : فرق بين عدم استحقاق العقاب من أصله واستحقاق العفو نظرا إلى لطفه تعالى مع عدم منافاته للحكمة في ذلك المقام ، إذ من الواضح توقّف العفو على الاستحقاق ، فإنّ العفو لا يكون إلّا عن ذنب ، فهناك استحقاق للعقوبة واستحقاق للعفو ، واللازم لمخالفة الواجب والحرام هو الأوّل دون الثاني. لحصول (٢).
ثمّ إنّ القائلين بالحسن والقبح العقليّين اختلفوا في كونهما ذاتيّين للأفعال أي ثابتين لها لنفس ذواتها أو أنّهما يثبتان لها من جهة الامور الخارجة عن الذات على أقوال :
__________________
(١) سورة التوبة : ١١٥.
(٢) كذا.