لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق له ، فإنّ قضيّة ذلك ارتفاع التكليف مع عدم وصول المجتهد إليه بعد بذل وسعه ، فحمله العبارة المذكورة على خصوص عامّ البلوى ممّا لا وجه له أصلا.
وكيف كان فكلماته المنقولة من أوّلها إلى آخرها مبنيّة على الغفلة عمّا هو محلّ الكلام في المسألة. فتوهّم أنّ القائل بحجّية أصالة البراءة يجعلها دليلا على ثبوت الحكم في الواقع وطريقا يتوصّل به إلى معرفة الحكم الثابت في نفس الأمر ومجوّزا للحكم بثبوته على الوجه المذكور فأنكر عليهم ذلك ، وبيّن أنّه لا ملازمة بين أصالة البراءة وما حكم به الشرع في الواقع فكيف يمكن كشفه عنه. والظاهر أنّه لمّا تخيّل وجوب بيان الأحكام على النبيّ والإمامعليهمالسلام وكان الحال فيما تعمّ به البلوى قاضية بوصول البيان إلينا لتوفّر الدواعي عليه كان عدم وصول ذلك إلينا كاشفا عن عدم وجوده في الواقع ، الكاشف عن انتفاء الحكم كذلك ، فلذا اعترف بحجّيته بالنسبة إليه دون غيره.
وقد عرفت ممّا أشرنا إليه : أنّ الكلام في المقام في حجّية أصالة البراءة إنّما هو بالنسبة إلى الظاهر دون الواقع ، والمقصود منه معرفة سقوط التكليف بالنسبة إلينا من غير ملاحظة لانتفائه بحسب الواقع ، إذ لا فائدة يعتدّ بها في معرفة ذلك بعد معرفة التكليف. كيف ومعظم أدلّة الفقه إنّما يثبت ما كلّفنا به في ظاهر الشريعة من دون إثبات الواقع ، لوضوح كون معظم الأدلّة ممّا لا دلالة فيها على الواقع ، وأقصى ما في المقام أن يفيد بعضها ظنّا به.
ومن البيّن : أنّ الظنّ بنفسه لا يعقل أن يكون طريقا مثبتا للواقع حتّى يصحّ الحكم بكونه الواقع ، فضلا عن كونه جائزا في الشريعة أو ممنوعا عنه.
غاية الأمر أنّه مع قيام الدليل على حجّيته في الظاهر يصحّ الحكم على صورة البتّ بثبوت ذلك الحكم ، وذلك إنّما يترتّب على قيام الدليل المذكور ، ولا اعتبار في ذلك الظنّ المفروض سواء انيط به الحجّية أو لا ، إذ من البيّن أنّ الظنّ ليس قابلا لأن يجعل سبيلا إلى الواقع على سبيل البتّ ، وانّما يكون سبيلا إليه على سبيل