وقد عرفت : أنّ قضيّة العقل حينئذ مراعاة الاحتياط ، لقيام احتمال الضرر الباعث على الخوف. وهذا وإن جرى في الصورة المتقدّمة إلّا أنّ اشتماله هناك على الضيق أو الحرج قد قضى بعدم لزومه القاضي بزوال الخوف.
وما قد يقال : من أنّ التكليف فرع العلم وأنّ من المقرّر في الأذهان أن لا تكليف إلّا بعد البيان مدفوع ، بأنّه إن اريد به انتفاء التكليف بالشيء إلّا بعد بيان كونه مأمورا به بحسب الواقع فهو ممنوع ، ودعوى استقلال العقل به بيّنة الفساد. كيف ومن الواضح إيجاب العقل للاجتناب من كثير من المشتبهات. وإن اريد به أنّ التكليف فرع العلم بلزوم الإقدام أو الأولويّة من باب الاحتياط فمسلّم ، والمفروض في المقام ثبوت العلم (١) ، فالمسلّم من بطلان التكليف قبل البيان ما إذا كان المكلّف غافلا بالمرّة ، أو متفطّنا غير عالم بلزوم الإقدام أو المنع عنه في الظاهر ولو من باب الاحتياط ودفع الضرر المخوف ، سواء تعلّق تيقّن بعدم وجوب الإقدام في الواقع لقيام بعض الشبه القاضية به بعد بذل وسعه ، أو لم يعلم وجوب الإقدام في الظاهر ، كما إذا لم يكن المقام مقام الخوف لسقوط الاحتمال في نظر العقل كما في بعض الفروض وإن قارن وجوده في الواقع.
وأمّا مجرّد الجهل بالحكم الواقعي فغير مانع من التكليف ، كما هو ظاهر ممّا قرّرنا.
فتحصّل ممّا ذكرنا ضعف الحكم بكون البراءة عقليّة بعد ورود الشرع أيضا على سبيل الإطلاق ، بل هي عقليّة في بعض الوجوه ، وشرعيّة في بعضها حسب ما مرّ.
هذا ، ثمّ إنّ ما ذكرنا من البناء على أصالة البراءة فيما إذا تعلّق الشكّ بنفس التكليف.
وأمّا إذا تعلّق بخصوصية المكلّف به فلا وجه لجريان الأصل المذكور فيه على كلّ الوجوه.
__________________
(١) والمفروض من أنّ المقام ترك الأصل ، خ ل.