والنظر في الأدلّة على قدر مخصوص من غير حاجة إلى اعتبار ما يزيد عليه ولو مع التمكّن من الزيادة ، فإنّه لا منافاة فيه لمقتضى الدليل المذكور أصلا ، إذ اعتبار وجوب تحصيل الأقوى إنّما هو لعدم قيام الدليل على الاكتفاء بما دونه ، وأمّا بعد قيام الدليل عليه فلا. فصار المتحصّل من الدليل المذكور هو حجّية الظنّ الحاصل من صاحب الملكة المطلقة بعد تحصيل ما هو الأقوى من المدارك ، حيث إنّه الظنّ الأقرب إلى إصابة الواقع ، فيجب على المكلّف إذن تحصيل الأقوى بعد انسداد سبيل العلم بالحكم ليكون مؤدّيا للتكليف خارجا في حكم العقل عن عهدة التكليف الثابت باليقين ، لعدم القطع بتحصيل البراءة من دونه. فذلك هو الظنّ القائم مقام العلم بحكم العقل دون سائر الظنون ، وكان ذلك هو الاجتهاد الواجب في تحصيل الأحكام. ولمّا دلّ الدليل القاطع على عدم وجوب الاجتهاد على الأعيان بل على سبيل الكفاية قضى ذلك بعدم وجوب تحصيل المرتبة المذكورة إلّا على بعض المكلّفين ، فيرجع الباقون إلى ظنّه والأخذ بمقتضى اجتهاده.
فإن قلت : إنّ قضيّة حكم العقل وجوب تحصيل العلم بالأحكام بالنسبة إلى آحاد الأنام ، وبعد انسداد باب العلم يرجع إلى الظنّ بالنسبة إلى كلّ واحد منهم ، لاشتراك الجميع في التكليف.
غاية الأمر : قيام الدليل من الإجماع والضرورة على جواز الرجوع إلى التقليد لغير البالغ إلى درجة التجزّي. وأمّا المتجزّئ فلا دلالة في الإجماع والضرورة على جواز أخذه بالتقليد ، ولا دليل قاطع سواه على خروجه عن الاشتغال المعلوم بمجرّد التقليد. ومجرّد دوران الأمر في شأنه بين الوجهين لا يقضي بتجويز الأمرين بالنسبة إليه والتخير بين المسلكين ، بل الّذي يقتضيه العقل عند دوران أمره بين الرجوع إلى ظنّه والأخذ بتقليد غيره في ما يكون المظنون عنده خلافه هو الأخذ بظنّه ، فإنّ بناءه على التقليد حينئذ أخذ بالوهم وتنزّل من الظنّ إلى ما دونه من غير قيام دليل عليه ، وهو خلاف ما يقتضيه حكم العقل. هذا إذا اجتهد في تلك المسألة وحصل له الظنّ بخلافه. وأمّا لو كان ذلك قبل اجتهاده