فإن قيل : لم قال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) [الآية ٤٤]؟
قلنا : قد مر مثل هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٠) [المؤمنون].
فإن قيل : لم شبّههم سبحانه وتعالى بالأنعام في الضلال ، بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الآية ٤٤] مع أن الأنعام تعرف الله سبحانه وتعالى وتسبّحه بدليل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء / الآية ٤٤] وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١]؟
قلنا : المراد أولا تشبيههم بالأنعام في الضلال ، عن فهم الحق ومعرفة الله تعالى ، بواسطة دعوة الرسول (ص). ثانيا : أن المراد تشبيههم ، في الضلال والعمى عن أمر الدين ، بالأنعام في ضلالها وعماها عن أمر الدين.
فإن قيل : إن كانوا كالأنعام في الضلال ، فلم قال تعالى : (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤)؟ وإن كانوا أضلّ من الأنعام ، فلم قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ)؟ وإن كانوا كالأنعام في الضلال ، وأضل منها أيضا ، فكيف يجتمع الوصفان؟
قلنا : المراد بقوله تعالى في الموضع الأول : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) التشبيه في أصل الضلال لا مقداره. والثاني :
بيان لمقداره. وقيل : المراد بالأول التشبيه في المقدار أيضا ، ولكن المراد بالأول طائفة ، وبالثاني طائفة أخرى ، ووجه كونهم أضلّ من الأنعام ، أنّ الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهّدها ، وتعرف من يحسن إليها ممّن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرّها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم ، من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتّقون العذاب الذي هو أشد المضارّ والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنيّ والعذاب الروي (١).
فإن قيل : في قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً
__________________
(١). انظر الكشاف ج ٢ ص ٤١٠.