قلنا : أعاد ذكرها تخصيصا لها وتمييزا ، لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ، ومن ولد منه ، وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع ، والنقل من هيئة إلى هيئة ، ومن حال إلى حال ، من وقت ولادته إلى وقت وفاته ؛ ثم خص المشرق والمغرب ، لأن طلوع الشمس من أحدهما وغروبها في الاخر ، على تقدير مستقيم في فصول السنة ، وحساب مستو ، من أظهر ما يستدلّ به على وجود الصانع. ولظهوره انتقل خليل الله صلوات الله عليه وسلامه ، إلى الاحتجاج به عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨].
فإن قيل : لم قيل أوّلا : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)) وقيل آخرا : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨)؟
قلنا : كان اللين واللطف أوّلا ، فلما برز عنادهم وإصرارهم كان قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨) ردّا على افتراء فرعون ، كما ورد في التنزيل حكاية على لسانه (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧).
فإن قيل : القول : «لأسجننك» أوجز من (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢٩) فلم عدل عنه؟
قلنا : كان مراده تعريف العهد ، فكأنه قال لأجعلنّك واحدا ممن عرفت حالهم في سجني. وكان إذا سجن إنسانا طرحه في هوة عميقة جدّا مظلمة ، وحده لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أوجع من القتل ، وأشد نكاية.
فإن قيل : قصة موسى (ع) مع فرعون والسّحرة ذكرت في سورة الأعراف ، ثم في سورة طه ، ثم في هذه السورة ، فما الحكمة من تكرارها وتكرار غيرها من القصص؟
قلنا : أولا : تأكيد التحدي وإظهار الإعجاز ، كما أن المبارز إذا خرج من الصف ، قال «نزال نزال هل من مبارز هل من مبارز» ، مكرّرا ذلك. يقال : ولهذا سمّى الله تعالى القرآن مثاني لأنه ثنيت فيه الأخبار والقصص.
فإن قيل : لم كرر الله تعالى ذكر قصة موسى (ع) أكثر من قصص غيره من الأنبياء (ع)؟
قلنا : لأن أحواله كانت أشبه بأحوال النبي (ص) من أحوال غيره من