والاتباع له ، فميّلت (١) بين الامتناع والإجابة ، والمخاشنة والملاينة. فلما قوي في نفسها أمر الملاطفة عزمت على فعله ، فحسن أن يعبّر بقطع الأمر ، لما أشرنا إليه.
وعلى هذا قول الرجل لصاحبه : لا أقطع أمرا دونك. أي لا أقرر العزم على شيء حتّى أفاوضك فيه ، وأوافقك عليه. وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن الاستعجال بفعل الأمر ، تشبيها بسرعة قطع الشيء المستدق كالحبل وغيره. ومنه قولهم : صرم الأمر. أي فرغ من فعله بسرعة. والصّريمة من ذلك. وفصل الأمر أيضا قريب منه.
وقوله سبحانه : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [الآية ٤٠].
وهذه استعارة : لأن المراد بارتداد الطّرف هاهنا التقاء الجفنين بعد افتراقهما. وذلك أبلغ ما يوصف به في السرعة. وليس هناك على الحقيقة شيء ذهب عنه ، ثمّ رجع إليه. ولكن جفن العين لمّا كان ينفتح وينطبق ، أقام الانفتاح مقام الخروج ، والانطباق مقام الرجوع. وقيل : في ذلك وجه آخر ، وهو أنّ في مجرى عادة الناس ، أن يقول القائل لغيره ، إذا كان على انتظار أمر يرد عليه من جهته : أنا ممدود الطرف إليك ، وشاخص البصر نحوك. فإذا كان امتداد الطرف بمعنى الانتظار مستعملا ، جاز أن يجعل ارتداده عبارة عن زوال الانتظار. فكأنه قال : أنا آتيك به قبل أن تتكلّف أمر انتظار ، وتعدّ الأوقات.
والقول الأول أولى بالاعتماد ، وأخلق بالصواب.
وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٦٦) وهذه استعارة. لأن العمى هنا ليس يراد به فقد الجارحة المخصوصة ، وإنّما يراد به التعامي عن الحق ، والذهاب صفحا عن النظر والفكر ، إمّا قصدا وتعمّدا ، أو جهلا وعمّى.
وإنّما أجري الجهل مجرى العمى في هذا المعنى ، لأن كل واحد منهما يمنع بوجوده من إدراك الشيء على ما هو به. إذ الجهل مضادّ للعلم والمعرفة ، والعمى مناف للنظر والرؤية. وإنّما قال
__________________
(١). ميّلت : أي شكّت ، انظر القاموس المحيط ، مادة ميل.